تفسير الرضا عن الله عزّ وجلّ هو ترْك السخط عليه فيما يُجريه عليك من الأضرار ، بل
يتلّقى حكمه بالفرح والسرور وإن كان هلاكه فيه لِصِدْق محبّته ، ولا يتمنّى زوال
شيء ممّا فعَلَه من الضرر حتّى يكون هو الذي يدفعه جلّ وعلا .
وتفسير (الرضا) بأحكامه ومقاديره هو نفي السخط لِما
حَكَمَ به عليك أو غيرك ، فتستوي عندك المضارّ والمنافع ، ولن تصل إلى تحقيق هذا
المقام إلاّ بكمال زهدك فيك ، وكمال رغبتك فيه لأجله لا لشيء يعود إليك منه ،
فيغيب عنك رؤية الضرّ والنفع ، ويسقط عنك التمييز بينهما من ذاتهما حبّا وبغضا ،
إلاّ أن يكون الحبّ والبغض من أجله سبحانه ، فلتكن بذلك لله بالله مع الله .
وتفسير (التفويض) هو ترْك التدبير في جلب نفع أو دفع ضرّ
ولو بالتمنّي ، فضلا عن السعي فيه ، لِما عُلِم مِنْ سبْق تدبيره سبحانه وتعالى ،
فلا محيص عمّا قدّر حصوله نفعا أو ضرّا ، ولا سبيل لِما قدّر نفيه نفعا أو ضرّا .
فلم يبق إلاّ ترْكُ التدبير ، وهو التفويض .
وتفسير (التسليم) لله عزّ وجلّ هو ترْك منازعة المقادير
تمنّيا أو سعيا جليّا أو دفعا وقوعا أو نفيا لِما سبَق أيضا من تقديره عزّ وجلّ
واختياره في سابق أزله لِما قدّر وقوعه أو عدمه . والمنازعة كلّها حرام عند
العارفين لأنّها إمّا عبث أو طمع كما تقدّم ، فلم يبق إلاّ التسليم ، وهو ترْك
المنازعة عبوديّة لا تطلّعا إلى شيء جلبا أو دفعا فيدخل شِرْك الأغراض والطمع
والعبث .
وتفسير (الاستسلام) له جلّ وعلا هو إسقاط الحوْل والقوّة
منك حتّى تكون كالميّت بين يدي غاسلك يقلّبك كيف شاء دون اختيار ولا إرادة ولا
حوْل ولا قوّة لأنّك في الحقيقة لا حوْل لك ولا قوّة ، وإنّما ذلك من دواعي النفس
الكاذبة ومن شأنها الانقياد للوهم ، فلم يبق إلاّ ترْك الدعوى وتأديب النفس عن
الانقياد للوهم وردّها إلى محض العبوديّة الخالصة لله عزّ وجلّ ، ولم يبق إلاّ
الاعتماد على الله عزّ وجلّ .
وتفسير (الاعتماد) عليه جلّ وعلا هو هدوء القلب سكونا من الاضطراب بقيّوميّته جلّ وعلا ، وسابق
تدبيره واختياره ، وتبريّا من الطمع والعبث كما تقدّم ، وكلّ هذه مقامات متجاذبة
بعضها ببعض ، ولن يقدر على استيفائها كمالا إلاّ العارفون . فكلّما سكنت إلى شيء
دون الله عزّ وجلّ ، كائنا ما كان ، فقد اعتمدت عليه . ومعنى السكون هو هدوء القلب والاستيثار بوجود ما سكن إليه ، والاضطراب والوحشة
والحزن عند فَقْدِ المسكون إليه ، ومَن كان على هذا الحال مع غير الله تعالى
وُكِلَ إلى ما سكن إليه ، وهلاكه محقّق لا محالة ، ولا مطمع له في درك الفلاح
الكامل . ومَن كان سكونه إلى الله عزّ وجلّ ، وأنْسُه به دون شيء سواه ، وَكَلَهُ
الله عزّ وجلّ إلى تدبير ألوهيّته واختياره ، وتولاّه بالعناية الأزليّة ، ومنحه
ما لا نهاية له من الأحوال العليّة والمقامات السَّنِيّة والأخلاق الزكيّة
ولا تسأل عمّا يجده هنالك من
الفرح واللذّات والشرف والرفعة ، ولا
يعلم غايته إلاّ الذي تفضّل به ، ولم يحظ بهذه المقامات إلاّ العارفون لانخلاعهم
إلى الله عزّ وجلّ من جميع ملابس الأكوان ، وتطهيرهم من النظر إليها لحظة أو أكثر
أو أقلّ ، فرجعوا إلى الله عزّ وجلّ بأسرار مختطفة عمّا سواه ، مغمورة بشهوده ،
غائبة عن وجود سوى الله عزّ وجلّ ، مقيّدة في حضرته ، جالسة على بساط تفريده
بأرواح مطهّرة من علائق الأجسام الظلمانيّة ، متعالية عمّا يثبّطها عن الطيران في
رياض الجبروت ، منزّهة عمّا يقدح في حبّها وكمال شوقها إليه جلّ وعلا دائما وبعقول
مطهّرة من دنس الهوى ، دائمة السير والفكر والنظر في مصنوعاته جلّ وعلا ، ملتقطة
أسرار حكمته في خلقه بقلوب قد كمل تعلّقها به بقطع العلاقات والتطهير من الأدران
والانخلاع من المألوفات وغضّ البصر عن جميع الموجودات ، ووقوفها على حدود الأدب
بين يدي خالق الأرض والسموات بنفوس زكيّة مطمئنّة عن جميع الاضطرابات ، طاهرة
مطهّرة منخلعة عن الهوى والشهوات ، وبأجساد مستغرقة البعض والكلّ ، لا تتخلّف منها
شعرة ولا ذرّة عن خدمة خالق الموجودات .
واعلم أنّ الذي حجب الخلق عن
الله تعالى هو سكونهم إلى غيره ، ولولا
ذلك لرأوه كلّهم ببصائرهم عيانا ، ولكن بعضهم في الحجاب أشدّ من بعض ، والكلّ في
الإنحجاب عنه على حدّ سواء لاستحالة المسافة والأمكنة والجهات عنه جلّ وعلا ،
وإنّما ذلك بنسبة ما حجب العبد عن شهوده سبحانه .
فطائفة حجبهم حبّ الدنيا والانكباب عليها ، وهذا أعظم الحجب ، وطائفة حجبهم عن الله عزّ وجلّ
شهواتهم وأغراضهم وهواهم ونفوسهم ، وهذا أدنى من الأوّل ، وطائفة حجبتهم الآخرة من
أنواع نعيمها وحورها وقصورها وأليم عذابها والخوف من دركات جهنّم ، وطائفة حجبهم عن
الله عزّ وجلّ سكونهم إلى العلوم والمعارف والأسرار والأنوار والأحوال والمقامات
لكونها هي مقصودهم من الله تعالى وطلبهم منه ، فَهُمْ يسكنون لوجودها ويضطربون
لفقدها .
والعارفون خرقوا
هذه الحجب كلّها وجلسوا مع الله عزّ وجلّ على بساط شهوده والتبرّي عن رؤية الأحوال
والمقامات وإرادتها لأنّها من جملة الأكوان التي خرجوا عنها . وإنّما كان الأوّلون أعظم ممّن بعدهم في الحجاب لأنّهم
حجبوا بالحجاب الأوّل بعد الثاني . وأهل الحجاب الثاني خرقوا الحجاب الأوّل بالزهد
فقطع عليهم الطريق دواعي النفس والهوى فحجبوا . وأهل الحجاب الثالث خرقوا الحجابين
فقطع عليهم الطريق لذّة النعيم الدائم فحجبوا . وأهل الحجاب الرابع خرقوا الثلاثة
وقطع الطريق عليهم إرادة الرفعة والمنزلة بحصول المقامات . إلاّ أنّ الثلاثة
الأوّلين حجبوا بالظلمات ، والآخرين حجبوا عن الله عزّ وجلّ بالأنوار ، وكلّها مستوية
، حيث لم ينظروا إلى الله تعالى . ومَن خرق الحجب كلّها نظر إلى الله تعالى بعين
البصيرة .
وأمّا
تفسير إقامة النفس لله عزّ وجلّ
على ما
يريد فهو القيام بمراده عبوديّة لأجله وابتغاء وجهه بإسقاط الرجاء منه على العبادة فقط لا أنّه ينقطع رجاؤه
منه قنوطا من غيره ، فإنّ ذلك عين الكفر المنهيّ عنه . وإنّما يسقط الرجاء عن
العبادة لتتخلّص عبادته لربّه عن شرك الأغراض ، ويرجو الخير من ربّه لمحض الفضل
والكرم والرجاء ، هو حُسْن الظنّ بالله تعالى لِما هو عليه من محاسن الصفات
العظيمة .
وأمّا الرجاء لِنيْل شيء من الدنيا أو الآخرة
فهو طمَعٌ عند العارفين ، وكلّه حرام لِما علم من
سبْق تقديره وقسمته في الأزل ، فلا مطمع في نيْل ما لم يقدّر ، كما لا خوف من فوْت
ما قدّر حصوله ، فأيّ شيء الرجاء بعد هذا ، وما هو حسن الظنّ به تعالى بقطع الطمع
منه في نيل ما لم يقدّر ، وقطع اتّهامه في فوْت ما قدّر .
فلم يبق إلاّ تخليص العبوديّة
له جلّ وعلا على ما يريد بحكم شرعه
بمفارقة الحظوظ ، وقطع الاختيار معه ، ومباينة الإرادات مع إرادته جلّ وعلا ،
وليكن معه كالميّت بين يدي غاسله يقلّبه كيف يشاء ، فلا يرى لنفسه حوْلا ولا قوّة
، ويبقى مستسلما للأحكام تجري عليه من غير كراهة لشيء منها ، فإنْ صبّت عليه جميع
الأضرار التي جرت على الخلق ما تألّمت منه شعرة لمّا تحقّق من قيّوميّة محبوبه ،
وهذا من الأحوال التي هي محض المواهب الإلهيّة ليس للكسب إليها سبيل ، ولن يستكمله
من فيه أدنى لحظة من الالتفات لنفسه أو سوى الله عزّ وجلّ ، أنالنا الله ذلك بمحض
فضله ، آمين ، بجاه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم .
والواجب في حقّ السائل أن يمسي ويصبح ويظلّ ويبيت وليس له مراد إلاّ شيئان ، الأوّل: هو الله عزّ وجلّ اختيارا له من جميع
الموجودات ، واستغناء به عنها ، وأنفة من لحظها لمحة ، وغيرة أن يختار سواه ،
وليكن الله عزّ وجلّ هو مبدأ مراده ومنتهاه ، وأوّل مراده وآخره ومفتتحه وختمه ،
ومستغرقا لقصر مراده عنه فيما بين ذلك كلّه حتّى لا تبقى لمحة يريد فيها غيره لأنّ
إرادة الغير إمّا طمع أو عبث كما تقدّم .
والثاني من مرادات السالك أن يكون كلّه لله عزّ وجلّ خالصا من
رقية غيره ، كامل التعلّق به تعلّقا سرّا وروحا وعقلا ونفسا وقلبا وقالبا حتّى لا
تكون منه ذرّة متخلّفة عن الله تعالى ، واقفا مع مراده عزّ وجلّ ، منسلخا عن جميع
الإرادات والاختيارات والتدبيرات، والحظوظ والشهوات والأغراض ، واقفا في ذلك لله
بالله مع الله ، لا شيء منه لنفسه ولا بنفسه ولا مع نفسه ، وليكن ذلك عبوديّة لله
عزّ وجلّ من أجله وإرادة لوجهه وأداء لحقّ ربوبيّته لا ليعود عليه منه شيء ، ولا
يختر على الله عزّ وجلّ أن يكمل مراده بل لتخلص عبوديّته لربّه عزّ وجلّ لا قنوطا
من خيره لئلاّ يكفر ، ويحسن ظنه به لما هو عليه من كمال الصفات الإلهيّة . إنتهى
. وهذا التنبيه قد كتبه سيّدنا رضي الله عنه حين كان يدرّس العلم . وكتبته من خطّه
، وبالله التوفيق .
0 تعليقات