الطريقة



تفسير ألفاظ صلاة الفاتح لما أغلق وجوهرة الكمال



تفسير ألفاظ صلاة الفاتح لما أغلق وجوهرة الكمال

(الفاتح لما أغلق) من صور الأكوان فإنها كانت مغلقة في حجاب البطون وصورة العدم وفتحت مغاليقها بسبب وجوده صلى الله عليه وسلم وخرجت من صورة العدم إلى صورة الوجود ومن حجابية البطون إلى نفسها في عالم الظهور إذ لولا هو ما خلق الله موجودا ولا أخرجه من العدم إلى الوجود فهذا أحد معانيه

والثاني أنه فتح مغاليق الرحمة الإلهية بسببهم انفتحت على الخلق ولولا أن الله تعالى خلق سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ما رحم مخلوقا فالرحمة من الله تعالى لخلقه بسبب نبيه صلى الله عليه وسلم

 والثالث من معانيه كانت القلوب مغلقة على الشرك مملوءة به ولم يجد الإيمان مدخلا لها ففتحها بدعوته صلى الله عليه وسلم حتى دخلها الإيمان وطهرها عن الشرك وامتلأت بالإيمان والحكمة أهـ .

والمعنى أنه فتح الله تعالى به على عباده أنواع الخيرات وأبواب السعادات الدنيوية والأخروية وبين لأمته ما أوحى إليه بتفسيره وتيسيره وإيضاحه أو فتح بحكمته ما أغلق أي التبس وانبهم أو فتح النبوة أول الأنبياء أو النور فأول ما خلق الله تعالى نوره أو باب الشفاعة أو باب الجنة ولا تفتح لأحد قبله أهـ من مطالع المسرات .

 قال شيخنا رضي الله تعالى عنه وأرضاه : قوله : (والخاتم لما سبق) من النبوة والرسالة لأنه ختمها وأغلق بابها صلى الله عليه وسلم فلا مطمع لأحد فيها بعده وكذا الخاتم لما سبق من صور التجليات الإلهية التي تجلى الحق سبحانه وتعالى بصورها في عالم الظهور لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أول موجود أوجده الله تعالى في العالم من حجاب البطون وصور العماء الرباني ثم ما زال يبسط صور العالم بعدها في ظهور أجناسها بالترتيب القائم على المشيئة الربانية جنسا بعد جنس إلى أن كان آخرها ما تجلى به في عالم الظهور الصورة الآدمية على صورته صلى الله عليه وسلم وهو المراد بالصورة الآدمية، فكما افتتح به ظهور الوجود كذلك أغلق به ظهور صور الموجودات صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

قال رضي الله تعالى عنه : أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب هو روح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم نسل الله تعالى أرواح العالم من روحه صلى الله عليه وسلم والروح ههنا الكيفية التي بها مادة الحياة في الأجسام وخلق من روحه صلى الله عليه وسلم الأجسام النورانية كالملائكة ومن ضاهاهم وأما الأجسام الكثيفة الظلمانية فإنها خلقت من النسبة الثانية من روحه صلى الله عليه وسلم فإن لروحه صلى الله عليه وسلم نسبتين أفاضهما على الوجود كله فالنسبة الأولى نسبة النور المحض ومنه خلقت الأرواح كلها والأجسام النورانية التي لا ظلمة فيها والنسبة الثانية من نسبة روحه صلى الله عليه وسلم نسبة الظلام ومن هذه النسبة خلق الأجسام الظلمانية كالشياطين وسائر الأجسام الكثيفة والجحيم ودركاتها كما أن الجنة وجميع درجاتها خلقت من النسبة النورانية فهذه نسبة العالم كله إلى روحه صلى الله عليه وسلم .

 قوله : (ناصر الحق بالحق) قال رضي الله تعالى عنه في شرح ياقوتة الحقائق : إن الحق في اللفظين هو الله تعالى ومعناه أنه نصر الله تعالى بالله سبحانه نهض إلى نصرة الله تعالى حيث توجه إليه أمر الله تعالى بالنصرة له فنهض مسرعا إلى نصرة الله تعالى بالله تعالى اعتمادا وحولا وقوة واستنادا واضطرارا إلى الله سبحانه وتعالى وقياما به على كل شيء فهذا هو الوجه الأول

والوجه الثاني أن الحق في اللفظ الأول هو دين الله الذي أمر الله تعالى بتبليغه وإقامته وهو دين الإسلام نصره بالحق أداة وآلة بمعني أنه لم ينصر الإسلام بباطل ولا تحيل ولا خديعة بل نهض إلى نصرة دين الإسلام بحال يعطي التصريح بالحق تصريحا لا يمازجه وجه من الباطل فما زال كذلك حتى تمكن دينه وشرعه في الأرض أهـ ويحتمل أن يكون المراد بالحق القرآن قاله في مطالع المسرات .

قوله : (والهادي إلى صراطك المستقيم) معناه أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي يهدي جميع عباد الله تعالى إلى دينه القويم الذي لا تبديل فيه ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان كما قال في حقه صلى الله عليه وسلم : {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} والصراط المستقيم هو النبي صلى الله عليه وسلم وسمي به لكونه طريقا مورودا إلى الحق لا وصول لأحد إلى الحضرة القدسية وذوق أسرارها والابتهاج بأنوارها إلا بالسلوك عليه صلى الله عليه وسلم وهو باب الله الأعظم وهو الصراط المستقيم إلى الله تعالى فمن رام من السالكين الوصول إلى الله تعالى في حضرة جلاله وقدسه معرضا عن حبيبه صلى الله عليه وسلم طرد ولعن وسدت عليه الطرق والأبواب ورد بعصا الأدب إلى إسطبل الدواب .

وقوله : (وعلى آله) أي : صل على آله طلب المصلي من الله تعالى أن يصلي على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم .

وقوله : (حق قدره ومقداره العظيم) معناه أن المصلي طلب من الله تعالى أن يصلي على نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم (عنده تعالى) . وقوله : قدره يصح أن تكون الدال المهملة محركة ومضمومة أو ساكنة ، وفي القاموس : القدر محركة القضاء والحكم ومبلغ الشيء ويضم كالمقدار إلى أن قال : {وما قدروا الله حق قدره} ما عظموه حق تعظيمه وقدرت الثواب فالقدر جاء على المقدار اهـ .

 قلت : قد حصل لنا من الكلام أن القدر والمقدار بمعنى واحد وأن القدر والمقدار في هذا المحل يصلح أن يكون بمعنى مبلغ الشيء وبمعنى الغنى ، فمعنى الصلاة : اللهم صل على سيدنا محمد الخ صلاة يكون مبلغها على قدر مبلغ رسولك صلى الله تعالى عليه وسلم أو : اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح الخ صلاة تساوي وتطابق غناه الذي أغنيته بك ثم بما منحته به من سبوغ فضلك وكمال طَولك كما قلت في محكم كتابك : {وكان فضل الله عليك عظيما} {ولسوف يعطيك ربك فترضى} ، أو : اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق الخ صلاة تساوي عظمة رسولك ، أو : اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق الخ صلاة إذا قيست بمرتبة رسولك صلى الله تعالى عليه وسلم تكون مقايسة لها .


وفائدة الكلام أن المصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب من الله أن يصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم صلاة بالغة مبلغ رسوله مطابقة لغناه صلى الله تعالى عليه وسلم بربه ثم بما منحه به مما لا يعلم قدره إلا هو ربه مساوية لعظمته صلى الله تعالى عليه وسلم مقايسة لرتبته صلى الله عليه وسلم وعلو قدره ومكانته وحظوته عنده


وأما المقصد الذي تختص به صلاة الفاتح لما أغلق فلا يمكن لنا كتبه بل نكتفي بالمقصد المتقدم الذي يعمها وغيرها ولكنا نتكلم بشروطها التي منها معرفة المقصد فنقول : شروطها عشرة أولها الإذن من القدوة أو لمن أذن له وثانيها أن يعتقد أنها من كلام الله تعالى وثالثها استحضار الصورة الكريمة بين يديه ورابعها أن يتلمح معنى الصلاة بقلبه وخامسها أن يعتقد أن الله تعالى ينوب عليه في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وسادسها أن يعتقد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم عين الذات وسر الذات وسر الموجودات وسابعها أن الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد وثامنها أن يستحضر معنى ألفاظ الصلاة وتاسعها القصد وهو تكون قوة التأثير في النفس وعاشرها أن ينوي عند إرادة الصلاة التعظيم والإجلال لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لا لشيء آخر فمن صلى على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهذه النية كانت المرة الواحدة من صلاته لو ضرب العالم في نفسه مائة ألف مرة وقسمت صلاته عليهم لكفرت جميع ذنوبهم . 

ونشرع في ذكر بعض معاني جوهره الكمال فنقول وبالله تعالى التوفيق:

أما لفظ (اللهم) فقد تقدم الكلام عليه وأما (صل وسلم) فقد تقدم الكلام أيضا على أن صلاة الله على نبيه فوق ما يدرك وما يعقل فلا تفسر بشيء والحاصل أن الكلام فقد تقدم عليها ومعناها السلام ههنا الأمان من الله تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم من كل ما يوجب تشويشا أو تنقيصا أو نقصا في الحظ العاجل والآجل . على سيدنا محمد (عين) أي حقيقة وذات . (الرحمة الربانية) نسبة إلى الرب نعت الرحمة وإنما أضيفت إلى الحضرة الربانية لأن الموجودات إنما نشأت من الحضرة الربانية فلذلك أضيفت الرحمة إليها والرب هو العلي عن كل ما سواه ومعناه أنه الملك والمتصرف والخالق والظاهر والنافذ مشيئته وكلمته في كل ما سواه وأما حضرة الألوهية فإنه أصل عبادة المودات فالإله هو المعبود بالحق الذي توجه إليه كل ما عداه بالخضوع والتذلل والعبادة والمحبة والتعظيم والإجلال وحضرة الوهية الشاملة لجميع الأسماء والصفات والحضرة الإلهية وإنما سمي صلى الله عليه وسلم عين الرحمة لأنه الأنموذج الجامع في إفاضة لوجود

 لولا وجوده صلى الله عليه وسلم لما كان وجود لموجود من المخلوقات أصلا وجود كل موجود من ذوات الوجود متوقف على سبقية وجوده صلى الله تعالى عليه وسلم من وجود ذلك الوجود فإنه لولا هو صلى الله عليه وسلم ما خلق شيء من الأكوان ولا رحم شيء منها إلا بالوجود ولا بإفاضة الرحمة فإفاضة الوجود على جميع وجود الأكوان مفاض من ذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم وإفاضة الرحمة من جميعها مفاض من ذاته الكريمة صلى الله تعالى عليه وسلم

فبان لك أن الفيض من ذاته الكريمة ينقسم إلى رحمتين الرحمة الأولى إفاضة الوجود على جميع الأكوان حتى خرجت من العدم إلى الوجود والرحمة الثانية إفاضة عين الرحمات الإلهية على جميعها من جملة الرزاق والمواهب والمنافع والمنح من العلم بصفات الله تعالى وأسمائه وكمالات ألوهيته وبأحوال الكون وأسراره ومنافعه ومضاره وبالأحكام الإلهية أمرا ونهيا فبذلك يدوم تمتعها بالوجود فإذا علمت هذا علمت أنه صلى الله عليه وسلم عين الرحمة الربانية لأن جميع الوجود رحم بالوجود بوجوده صلى الله عليه وسلم ومن فيض وجوده أيضا رحم جميع الوجود فلهذا قيل فيه أنه عين الرحمة صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المراد بقوله : {ورحمتي وسعت كل شيء} وقوله تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} لأن أصله صلى الله عليه وسلم رحمة ولا يلزم من شمول الرحمة عدم وقوع العذاب والوعيد في الغضب لأن تلك مقتضيات الكمالات الإلهية فإن الكريم وإن عظم كرمه لولا بطشه وغضبه وعذابه ما خيف جانبه ولو أمن منه هذا الحال احتقر جانبه وليست هذه صفة الكريم ولا ينبغي له هذا فتبين لك أن صفة الكريم الغضب والبطش والتعذيب ليكون جانبه معظما مخافا مهابا كما كان جانبه مرجوا لعفوه ورحمته

 ولما كان (الياقوت) غاية ما يدرك الناس في الصفاء والشرف والعلو إذ هو غاية ما يدرك من الجواهر الصافية الغالية الشريفة سمي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به في هذه الصلاة بقوله : (والياقوتة) ، وإذا كان هو أشرف من الياقوت وأصفى وأعلى على حد قوله تعالى : {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} ثم وصفها بقوله : (المتحققة) أي بجميع الصفات والأسماء الإلهية التي يتوقف عليها وجود الكون وبقي وراءها من الأسماء والصفات ما لا توقف لوجود الكون عليه والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم تحقق بمعرفة جميع الصفات والأسماء الإلهية التي يتوقف عليها وجود الكون دون غير هائم

وصفه صلى الله عليه وسلم بأن (الفهوم) التي قسمها الله تعالى لخلقه في إدراك معاني كلامه جميع كتبه وفي إدراك معاني الأحكام الإلهية وفي إدرك معاني أسمائه وصفاته ومعارفه وإذا جمعت جمعا واحدا وجعلت كالشيء المركوز في الأرض كالعنزة كان صلى الله عليه وسلم دائرة محيطة به بقوله : (الحائطة) أي المحيطة (بمركز الفهوم والمعاني) أي بالفهوم والمعاني التي كالمركز من إضافة المشبه به إلى المشبه بعد حذف أداة التشبيه مبالغة والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم محيط بجميعها ما شذ عنه شيء منها صلى الله تعالى عليه وسلم . (ونور) معطوف على عين . (الأكوان) أي المخلوقات . (المتكونة) نعت للأكوان أي التي تتكون شيئا بعد شيء ويقابلها ما بقي في طي العدم فالأشياء المقررة في العلم الأزلي منقسمة قسمين قسم منها أعيان ثابتة وهي التي سبق في علمه أنها تخرج من العدم إلى الوجود ، وقسم منها أعيان عدمية وهي التي سبق في علمه أنها لا تخرج إلى الوجود وتبقى في طي العدم فإنه علمها أن لو خرجت إلى الوجود وعلى أي حالة تكون وبأي أمر تتكون وبأي مكان وزمان تقع وماذا ينصب عليها من الأحكام الإلهية ضرا ونفعا فإنه محيط بجميعها علما وهو صلى الله عليه وسلم نورها .

(الآدمي صاحب الحق) نعت له وهو ما قرره سبحانه في شرعه الذي حكم به على خلقه أمرا ونهيا وكيفية وابتداء غاية وهو صاحبه صلى الله تعالى عليه وسلم المقرر له والناهي عنه والمنفذ له . (الرباني) نعت للحق . (البرق) المراد به الحقيقة المحمدية . (الأسطع) أي الأرفع وارتفاعها ظهورها على جميع الخلق لأنه مقرر الرحمة الفائضة من حضرة الحق ومنها تفيض على الخلق وهذه الرحمة الإلهية المنصبة على الخلق هي المراد بقوله:(بمزون الأرباح) والمزون جمع مزن والمراد الرحمات الإلهية والأرباح جمع ربح استعير البرق للحقيقة المحمدية والمزن لانصباب الرحمة الإلهية على الخلق لأن البرق ملازم لمزن الأمطار كما أن الحقيقة المحمدية ملازمة للرحمة الإلهية

 والحاصل أن (مزون الأرباح) هي الرحمة الفائضة من حضرة الحق على خلقه ويعني بها ههنا فيوض العلوم والمعارف والأسرار والتجليات والأنوار ودقائق الحكم وما لا ينتهى إلى ساحله وغايته من المنح والمواهب وصفاء الأحوال والصفات القدسية المخزونة المنصبة على قلوب العارفين والأقطاب. (المالئة) نعت لمزون . (لكل متعرض) وهو تارة يكون بالتوجه إلى الله تعالى والتهيؤ والاستعداد وتارة بالاقتطاع الإلهي . (من البحور) قلوب أكابر العارفين . (والأواني) قلوب الأولياء . (ونورك) معطوف على عين . (اللامع) نعت للنور . (الذي ملأت به) الضمير عائد إلى الذي . (كونك) مفعول ملأت . (الحائط) نعت لكون والكون الحائط هو الأمر الإلهي الصادر عن كلمة كن الذي أقام الله تعالى فيه ظواهر الوجود . (بأمكنة) متعلق بالحائط والأمكنة جمع مكان وهو الذي يحل فيه المتمكن . (المكاني) بتخفيف الياء للسجع وأصله التشديد لأن ياءه للنسبة إلى المكان والمراد هنا الذات التي منه تحل وتستقر مكانها

والمعنى : ونورك اللامع الذي ملأت به مكوناتك الحائط بأمكنة كل مكان لأن الكون كله مملوء به صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أن الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى قال في تنوير الحلك : قال الشيخ صفي الدين أبو منصور في رسالته : والشيخ عبد الغفار في التوحيد حكى عن الشيخ أبي الحسن الونائي قال : أخبرني أبو الحسن الطنجي قال : وردت على سيدي أحمد بن الرافعي فقال لي : ما أنا شيخك إنما شيخك عبد الرحيم بقنا رح إليه فسافرت إلى قنا فدخلت على الشيخ عبد الرحيم فقال : أعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لا قال لي : رح إلى البيت المقدس حتى تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحت إلى بيت المقدس فحين وضعت رجلي وإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى المراد منه .

 (اللهم صل وسلم) تقدم الكلام على الصلاة والسلام . (على عين الحق) فالحق له إطلاقان الأول إطلاقه على الذات والثاني إطلاقه على صفة الذات فالأول يقابله الباطل من كل وجه فالحق المحض هو الذات العلية المقدسة وما عداها كله باطل

 وإلى هذا الإطلاق يشير قول لبيد الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والتحقيق : ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل وهذا لا يطلق عليه صلى الله عليه وسلم إذ هذا الإطلاق عين الذات المقدسة لا يطلق على غيرها أصلا ، والإطلاق الثاني هو العدل الذي هو صفة الحق سبحانه وتعالى القائم بصورة العلم الأزلي النافذ في كل شيء وهذا العدل المذكور وهو الساري في جميع آثار الأسماء والصفات الإلهية ومجموع هذا العدل كلا وبعضا مجموع في الحقيقة المحمدية فلذا أطلق عليها عين الحق في هذا الاعتبار فكلها حتى لا تنحرف عن ميزان العدل الإلهي الذي هو عين الحق في الإطلاق الثاني  

(عروش) جمع عرش فاعل تتجلى. (الحقائق) جمع حقيقة من إضافة المشبه به إلى المشبه بعد حذف أداة التشبيه مبالغة والمعنى : اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها الحقائق التي هي كالعروش لما كانت كل حقيقة منطوية على ما لا غاية له من العلوم والمعارف والأسرار والمواهب والفيوض شبهت بالعروش لأن العرش محيط بما في جوفه من جميع المخلوقات وأيضا لما كان العرش هو غاية الرفعة والشرف من المخلوقات في علم الخلق وكانت الحقائق في غاية العلو والرفعة والشرف لأنها صدرت من حضرة الحق الذي لا غاية لعلوه وشرفه ولا علو وراءه فهو غاية الغايات في العلو والرفعة والشرف وكانت الحقائق الصادرة من حضرته سبحانه وتعالى مكسوة بهذه الصفة العلية والعلو والشرف والجلال أطلق عليها اسم العرش من هذا الباب فهو حقيقة عرش

ولما كانت المعارف الإلهية المفاضة على جميع الأكابر من النبيين والمرسلين والأقطاب كلها فائضة من (الحقيقة المحمدية) وليس شيء من المعارف يفاض من حضرة الحق خارجا عن الحقيقة المحمدية ولا يفاض شيء منها على أحد من خلق الله تعالى إلا هو بارز من الحقيقة المحمدية وصف صلى الله عليه وسلم بأنه عين المعارف بقوله : (عين المعارف) لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم خزانتها وينبوعها . (الأقوم) أي الجاري في مجاري العدل الإلهي لا يعوج بوجه ولا يخرج عن الجادة المستقيمة في العدل وهذا التفسير هو معنى (الأسقم) ، أو أنه صلى الله عليه وسلم أكمل من كل من قام بتوفية حقوق الحق سبحانه وتعالى

 وهذا التفسير الثاني هو الملحوظ في تسميته صلى الله تعالى عليه وسلم بأحمد فهو صلى الله تعالى عليه وسلم أكمل الخلق في القيام بتوفية آداب الحضرة الإلهية علما وحالا وذوقا ومنزلة وتخلقا وتحققا فهو أكمل من حمد الله من خلقه من جميع الجهات ولما كان صلى الله تعالى عليه وسلم هو الصراط إلى حضرة الحق جل جلاله لا عبور لأحد إلى حضرة الحق إلا عليه فمن خرج عنه انقطع عن حضرة الحق وانفصل وصف بأنه هو الصراط التام إلى حضرة الحق بقوله : (صراطك التام) لأنه صلى الله عليه وسلم لمن أراد الوصول إلى حضرة الحق كالصراط الذي يكون عليه عبور الناس في المحشر إلى الجنة لا مطمع لأحد من الخلق في الوصول إلى الجنة من أرض القيامة إلا على الصراط الذي هو عليه العبور فمن رام الوصول إلى الجنة من أرض القيامة على غير الصراط المعلوم للعبور انقطع عن الجنة وانفصل ولا مطمع له في الوصول إليها كذلك هو صلى الله تعالى عليه وسلم هو الصراط المستقيم بين يدي الحق لا مطمع لأحد في الوصول إلى حضرته إلا بالعبور عليه صلى الله عليه وسلم ومن رامها بغير العبور عليه صلى الله عليه وسلم انقطع وانفصل وطرد ولعن.

 (الأسقم) أي الكامل في الاستقامة بلا اعوجاج : اعلم أن الأسقم أفعل تفضيل من استقام السداسي الذي أصله قام الثلاثي زيد على بنائه ثلاثة أحرف فصار استفعل فلما أريد بناء أفعل التفضيل منه حذفت الألف والتاء والألف المنقلبة من الواو مع أنها عين الكلمة وأبقيت السين مع أنها زائدة لتدل بأنه مصوغ من استقام السداسي لا من قام ومثله في ما ذكر أشوق فإنه أفعل تفضيل مصوغ من اشتاق الخماسي المزيد الذي أصله شاق الثلاثي زيد على بنائه حرفان فصار أفعل فلما أريد صوغ فعل أفعل التفضيل منه حذفت الألف الزائدة مع التاء الأصلية .

 إن قلت : لم تحذف عين الكلمة من استقام ولم يحذف من اشتاق فالجواب أن إبقاءه لا يضر لأنه خماسي فإبقاؤه لا يمنع من كون بناء الشوق على بناء أفعل بعد حذف الألف والتاء بخلاف استقام فإن بقاء عين الكلمة منه يمنع من كون بناء اسم التفضيل منه على أفعل إلا إذا حذفت السين بعد حذف الألف والتاء فحينئذ يصير أقوم فيفوت المقصود الذي هو التفنن في السجع على التفسير الأول في تفسيري أقوم ،

والمعنى المراد تحصيله الذي هو الاستقامة بلا اعوجاج على التفسير الثاني من تفسير الأقوم فلانتفاء تلك العلة على الأقوم ثبت فيه عين الكلمة لأنه من قام الثلاثي غير المزيد ، فإن قلت : من سلفك فيما ذكرت من أئمة اللغة قلت : قال في القاموس : القوم الجماعة من الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة إلى أن قال : وقام قوما وقومة وقياما وقامة انتصب فهو قائم من قوم وقم وقوام وقيام وقاومته قواما قمت معه والقومة المرة الواحدة وبين الركعتين قومة والمقام موضع القدمين وقامت المرأة تنوح طفقت والأمر اعتدل كإسقام اهـ .

وأما اشتقاقه فقد قيل فيه : الشوق نزاع النفس إلى أن قال : وقد شاقني حبها هاجني كشوقني إلى أن قال : وأشتاقه وإليه بمعنى اهـ . إن قلت : من سلفك من أئمة النحو قلت : قال ابن مالك في باب التعجب من التسهيل : وقد يبنيان يعني التعجب والتفضيل من فعل المفعول إن أمن اللبس وفعل أفعل مفهم عسر أو جهل ومن مزيد فيه اهـ .

وقال الدماميني في شرحه : نحو ما أعطاه الدراهم وما أشوقني إلى عفو الله تعالى فإنهما من أعطى واشتاق وليس من ذلك ما أفقره فإنه من فقر الرجل بمعنى افتقر وأما ما أشهاه فإنه من شهي الشيء بمعنى اشتهاه اهـ . اللهم صل وسلم على طلعة أي مجلى ومظهر الحق وهو الله تعالى بذاته سبحانه وتعالى وتجليه بالحق أي بذاته لا بشيء دونها فإن السبب الذي تجلت به الذات العلية للحقيقة المحمدية وتجليها لها كان عن الذات العلية المقدسة المنزهة لا عن غيرها وهذا أحد تفسيري طلعة الحق بالحق .

التفسير الثاني أن طلعة الحق طوالع الأسماء والصفات الإلهية التي مجموعها هو عين الحق الكلي بجميع ما تفرغ عنها من الأحكام الإلهية والمقادير الربانية واللوازم والمقتضيات الملازمة لتلك الصفات والأسماء فمجموعها هو عين الحق الكلي فكان صلى الله عليه وسلم مطلعا لها جامعا لحقائقها وأحكامها ومقتضياتها ولوازمها فكان طلوعها في الحقية المحمدية عن مادة أسرار الصفات والأسماء الإلهية الذي هو السبب المعبر به بالباء فكان طلوعها فيه صلى الله عليه وسلم بحسب أسرارها وأنوارها فكلها حق والمعنى اللهم صل وسلم على طلعة أي مجلى أي مظهر أي مطلع الحق الذي هو صفاتك وأسماؤك وجميع ما تفرع عنها من أحكامك ومقاديرك واللوازم والمقتضيات الملازمة لتلك الصفات والأسماء الجامع لحقائقها وأحكامها ومقتضياتها ولوازمها التي كان طلوعها في الحقيقة بالحق عن مادة أسرار صفاتك وأسمائك وكان طلوعها فيه بحسب أسرارها وأنوارها فكان كله حقا

ولما تم قيامه صلى الله عليه وسلم في هذا الميدان بحقوق التجليين المذكورين وتوفيته بوظائف خدمتها وآدابها جملة وتفصيلا وتكملة لمقابلتهما بعبوديته الكاملة عبر عن هذه الألطاف في الصلاة الكريمة بقوله : عبدك من حيث أنت كما هو عبدك من حيث أسمائك وصفاتك ولما كان جميع أسمائك والأسرار والعلوم والمعارف والفتوحات والفيوضات والتجليات الشريفة منها يستفاد جميع المطالب وصف صلى الله عليه وسلم بأنه هو الكنز الأعظم بقوله الكنز ألأعظم إذ من فائدة الكنز تحصيل المطالب والمنافع لذوي الحاجات فبسبب كونه صلى الله عليه وسلم كنزا عظيما يستفاد منه جميع المطالب والمنح والفيوضات الربانية والدنيوية والخروية والعلوم والمعارف والأسرار والأنوار والأعمال والأحوال والمشاهدات والتوحيد واليقين والإيمان وآداب الحضرة الإلهية إذ هو المفيض لجميعها على جميع الوجود جملة وتفصيلا فردا فردا من غير شذوذ .

(إفاضتك) التي هي مورد الألطاف الذي سألته (منك) عندما تجليت بنفسك وأوصافك وسألت ذاتك بذاتك فتلقيت ذلك السؤال منك بالقبول والإسعاف وكان قوامه راجعا إليك فأوجدت ذلك المود الذي هو الحقيقة من حضرة علمك عيونا وأنهارا ثم سلخت العالم منها واقتطعته كله تفصيلا على تلك الصورة الآدمية الإنسانية اعلم أنه لما تعلقت إرادته بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية وذلك عندما تجلى بنفسه من الأوصاف وسأل ذاته بذاته مورد الألطاف فتلقى ذلك السؤال منه بالقبول والإسعاف فأوجد الحقيقة المحمدية فكانت عيونا وأنهارا ثم سلخ العالم منها واقتطعه كله تفصيلا على تلك الصورة الآدمية الإنسانية فإنها كانت ثوبا على تلك الحقيقة المحمدية النورانية شبه الهواء والماء في حكم الرقة والصفاء فتشكل الثوب شكل الصورة النورانية فكان محمد صلى الله عليه وسلم مجمع الكل وبرهان الصفات والمبدأ الأعلى

 والحاصل أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أول الموجودات وأصلها وبركتها وببركته وجدت وبه استمدت . (إحاطة) مصدر وصف به مبالغة أي المحيط كرجل عدل أي عادل. (النور) أي بالنور (المطلسم) أي المكتوم أي المحيط بسر ألوهيتك المكتوم الذي أردت أن تطلع عليه غيرك من خلقك من ذوي الخصوصية لأن سر الأول قسمه الحق سبحانه بحكمة المشيئة قسمين قسم استبد بعلمه لا يطلع عليه غيره وقسم اختار أن يطلع عليه غيره من ذوي الاختصاص وكان مقسوما بينهم بالمشيئة الأزلية لكل واحد منهم ما قدر له من سر الألوهية وكان ذلك المقسوم لخلقه أن يطلعوا عليه كله أحاط به صلى الله عليه وسلم علما وذوقا واجتمع في ذاته الكريمة في حقيقته المحمدية وتفرق منه إلى الخلق أي واصل إلى كل واحد ما قسم له

وبعبارة أن المراد بالنور المطلسم الكمالات الإلهية التي سبق في سابق علمه أن يكشفها لخلقه ويطلعهم عليها جملة وتفصيلا لكل فرد من الوجود ما يناسبه وما يختص به من أول ظهور العالم إلى الأبد وكان ذلك النور المذكور مطلسما في حجاب الغيب وضرب عليه حجب عظيمة بحيث لا يمكن عليه الوصول إلى الاطلاع عليه أو على شيء منه فأشهد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة وأطلعه عليه في حقيقته المحمدية من غير شذوذ والمعنى حينئذ إحاطة النور أي العالم المشاهد أي المطلع بالنور أي كمالاتك المطلسمة أي المحجوبة المغيبة التي سبق في سابق علمك أن تكشفها لخلقك وتطلعهم عليها وإنما أفرد النور وأريد به الكمالات الإلهية لأنها كلها حق والحق كله نور .

(صلى الله تعالى عليه وعلى آله) وصلاة الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم توقيفية لا تعرف حقيقتها وما يقوله فيها أهل الظاهر لا يلتفت إليه وتقدم أنها فوق ما يدرك ويعقل فلا تفسر بشي بلا تقول يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا تكيف صلاته وتقدم أيضا أن الصلاة في حق الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وصف قائم بذاته على الحد الذي يليق بذاته وعظمته وجلاله هو أمر فوق ما يدرك ويعقل . صلاة معمول صل وسلم على طلعة الحق بالحق إلى آخره (صلاة تعرفنا بها) أي بالصلاة. (إياه) أي نبيك محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم في مراتب بطونه صلى الله تعالى عليه وسلم

 طلب المصلي من الله أن يعرفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إما بالوصول إلى معرفة حقيقة روحه أو حقيقة عقله أو قلبه أو نفسه أما حقيقة روحه فلا يصل إليها إلا الأكابر من النبيين والمرسلين والأقطاب ومن ضاهاهم من الأفراد ومن العارفين من يصل إلى مقام عقله صلى الله عليه وسلم فتكون معارفه وعلومه بحسب ذلك إذ ليس مقام العقل وعلومه كمقام الروح وعلومه ومنهم من يصل إلى مقام قلبه صلى الله عليه وسلم فتكون معارفه وعلومه بحسب ذلك وهو دون مقام العقل في المعارف والعلوم ومنهم من يصل إلى مقام نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم فتكون معارفه وعلومه بحسب ذلك وهو دون مقام القلب

وأما (مقام سره صلى الله عليه وسلم) فلا مطمع لأحد في دركه لا من عظم شأنه ولا من صغر والفرق بين مقام سره وعقله وقلبه ونفسه أن: مقام سره صلى الله عليه وسلم هي الحقيقة المحمدية التي هي محض النور الإلهي التي عجزت العقول والإدراكات من كل مخلوق عن إدراكها وفهمها  ثم ألبست هذه الحقيقة المحمدية لباسا من ألأنوار الإلهية واحتجبت بها عن الوجود فسميت روحا ثم تنزلت بألباس أخرى من الأنوار الإلهية واحتجبت بها فكانت بسبب ذلك تسمى عقلا ثم تنزلت بألباس أخرى من الأنوار الإلهية واحتجبت بها فسميت بذلك قلبا ثم تنزلت بألباس أخرى من الأنوار الإلهية احتجبت بها فكانت بسبب ذلك تسمى نفسا انتهى والله تعالى الموفق للصواب وإليه سبحانه المرجع والمآب . 

إرسال تعليق

0 تعليقات