الطريقة



المقاصد التي تبنى عليها الأذكار اللازمة للطريقة


المقاصد التي تبنى عليها الأذكار اللازمة للطريقة  فأقول وبالله تعالى التوفيق وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق:

 اعلم أنه ما من ذكر من أذكار هذه الطريقة اللازمة وغيرها إلا وله مقصد بني عليه ذلك الذكر ومنها ما يكون له مقاصد متعددة ومرادنا أن نذكر منها ما لا بأس بذكره والمانع من كتب الكل خوف إفشاء الأسرار الإلهية إذ لا يؤمن أن يقع الكتاب على يد شياطين الإنس والطلبة الكذبة الفجرة الدجلة الظالمين الذين يدعون أن لهم الإذن فيما ليس لهم فيه من علم فيعطونها من لا علم لهم بحالهم فيصدقهم اغترارا بمقالتهم فيستعمله على ذلك المقصد فيهلك أو يستعمله الجاهل بحقيقة الأمر من غير ادعاء إذن فيتعب نفسه من غير أن يحصل على طائل وغايته سلامته من الطعن

وإذا تقرر هذا فاعلم أن المقصد هو ما يحصَّل به القاعدة التي عليها بناء الذكر ويختلف باختلاف الأذكار وهو آكد شروط الذكر وألزمها لأنه الذي عليه يجري معنى الذكر لأن الذكر يدور على اللسان ليؤثر معناه اتصافا في النفس بما يقتضيه المعنى فإذن لابد من إحضار قصد بين يدي الذاكر يبنى عليه الفكر تدبر المعنى الذكر وبحسن تلمح الفكر معنى القصد أثناء الذكر تكون قوة التأثير في النفس وأهل التمكين في هذا الطريق لا تخلو حركة من حركاتهم ولا سكنة من سكناتهم عن قصد يتوجهون بمعناه إلى الله تعالى فلا أقل لهم من تواصل معنى قصد الذكر بأبلغ ما يمكنهم وكذلك سائر العبادات .

 ثم اعلم أن مقاصد الأذكار تختلف باختلاف المنازل والمقاصد من الأذكار كالأرواح من الأجساد وكالمعاني من الألفاظ وهي أساس الأذكار عليها بناء الذكر وإليها يرجع عند حضور الفكر ومن صفحات معناه تتلمح الثمرات ومن تلقائه تهب نواسم الأسرار والبركات ومن أغمي عليه في معنى قصده خاب مسعاه وبعد مأواه أهـ ملخصا انظر بغية السالك .

وإذا تمهد هذا فاعلم أن مقاصد الأذكار اللازمة للطريقة ظاهرة واضحة لمن تأمل كيفية قراءة الورد والوظيفة والذكر الذي يفعل بعد عصر يوم الجمعة من حين ابتداء قراءتها حتى تختم وذلك أن العبد لا يخلو غالبا من أقوال وأفعال واخلاق وأحوال توجب له من ربه نقصا أو شكا أو لوما أو ذما أو إبعادا ولما كان الغالب على العبد ما ذكرنا كان مطلوبا بالتوبة والاستغفار من كل ما يخل بالعبودية ويوجب الشين على العبد ويمنعه التطهر من الأخلاق والأوصاف البهيمية والطبيعية النفسانية والاتصاف بالصفات المحمودة من صفت الملائكة والروحانيين والنبيين

ولما علم أن الذي طلبه بما ذكر هو ربه المتصف بالعظمة والجلال علم أن هذا لا ينبغي لعاقل أن يعبده لطلب الحظوظ والأغراض وإنما ينبغي له أن يعبد الله عز وجل لأجل الله سبحانه وتعالى ولإرادة وجهه وامتثال أمره بعبادته ولأداء حق العبودية وللقيام بحق الربوبية ولتعظيمه وإجلاله ومحبته وحياء منه أن يراه تخلف عن أمره وشوقا إليه وشكرا لنعمه وابتغاء مرضاته مع الاعتراف بالعجز والتقصير وعدم توفية الربوبية حقها وسكون ذلك في القلب ما دام في قيد الحياة مع إقراره بأنه إن رزقه الله تعالى عبادته أنه لا يدوم له ذلك إلا إذا أمده الله بإدامته وأعانه بمعرفة منه ثم يتبرأ من حوله و قوته ويعترف أن العزم على ذكر ربه قبل الشروع منه محض موهبة وإنعام وتوفيق من الله تعالى. ثم يستعين بالله تعالى على الشروع منه في مقصد الأذكار التي هي الورد والوظيفة والذكر الذي يفعل بعد العصر يوم الجمعة،

ثم يقول بلسانه مستحضرا معنى ما يقول في قلبه : " اللهم إني نويت بتلاوة هذا الورد تعظيما وإجلالا لك وابتغاء مرضاتك وقصدا لوجهك الكريم مخلصا لك من أجلك وأقول بإمدادك وعونك وحولك وقوتك وبما وهبتني من إنعامك وتوفيقك مستعينا بك" ثم يقرأ (فاتحة الكتاب) إلى آخرها بأن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخر السورة ويقول : آمين

 وفي ذلك من الأسرار ما لا يحيط به إلا الله تعالى ولا ينبغي لنا إفشاء ما علمنا منه وها نحن نكتفي بذكر قليل مما لا بأس في ذكره فنقول : إن في قراءة الفاتحة مقاصد الأذكار اللازمة أولها أن العبد لما كان الضعف والعجز والذل والافتقار وعدم الحول والقوة من أوصافه الذاتية وأن القدرة والحول والقوة والمعونة والتوفيق للقيام بأمر الله واجتناب نهيه من الله وأن الشيطان مسلط على العبد لا حيلة للعبد في النجاة منه إلا بالله تعالى بدأ بالاستعاذة بالله تعالى وبذكر البسملة فلما علم أن ربه جل وعلا تفضل عليه بالعزم الماضي والحزم النافذ بادر بالحمد لله والثناء عليه كما هو أهله ولا يحمده أحد ويثني عليه بمثل فاتحة الكتاب ، ثم أنه لما قال : )الحمد لله رب العالمين( قوي رجاؤه على تبرئه مما سوى الله تعالى حين ألهمه الإقرار بقلبه والنطق بلسانه أن لا يستحق الحمد إلا مولاه لأنه هو المنعم بإيجاده أولا وبالتفضل في خلق الإيمان فيه ثانيا وبتوفيقه إلى النهوض إلى هذه العبادة ثالثا ،

ثم أنه لما قال : )الرحمن الرحيم( ازداد رجاؤه قوة ورسوخا في قلبه وازداد فرحا وسرورا بهذا المنعم الكريم ، ولما قال : )ملك يوم الدين( كادت نفسه تزهق وتصير ترابا وتطير لما امتلأ قلبه من هيبة عظمة هذا الملك ولما تحقق له هذا المشهد خضع لربه وذل وتبرأ من سواه بقوله : )إياك نعبد( وازداد تذللا وتصاغرا لمولاه بطلب المعونة منه لعلمه بأنه لا يقوى على عبادته إلا به لأنه هو الفاعل والموفي بقوله : )وإياك نستعين( ،

ثم أنه لما امتثل قول مولاه جل وعلا : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} وقدم الوسيلة إليه بجميع ما تقدم شرع في السؤال من الله تعالى أن يرزقه نيل ما يطلبه من مولاه الكريم لأنه هو المقصود الأعظم الذي كان بصدده وهو سلوك الطريق المستقيم الذي يوصله إلى ما وصل إليه الذين أنعم عليهم مولاهم الكريم وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون والعدول عن طريق الفرق الضالة من هذه الأمة وغيرها والوصول إلى هذا المطلب البر هو المقصد الأعظم من الذكر بقوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ،

 ثم أنه لما علم أن المتنجس بالأدناس والرذائل لا يصلح له الوقوف بباب الملك فضلا عن الدخول فالخدمة له أولى وأحرى وأنى طمعه في دخول مداخل الخاصة سوء أدب وجراءة على الملك وعلم أن اللائق بصاحب هذا الحال ما يطهره ليصلح للخدمة وعلم أيضا أنه لا بد له من الوسيلة والوسيلة لا يجترئ على توصيله وهو متلطخ بالنجاسة وعلم أن التطهر من تلك النجاسات لا يحصل إلا بالتوبة والاستغفار شرع في الاستغفار بقوله : استغفر الله

ثم إنه لما أكمل من الاستغفار ما كان اجتناه قوي رجاؤه على أنه قد يصلح الآن للوقوف بين يدي سيده وخدمته ولكنه في خوف شديد ووجل عظيم لما علم من عظمة هذا الملك وكبريائه وعلو شأنه وكونه مختارا يفعل ما يشاء ولما علم ذلك خاف من الاستبداد بنفسه والاستقلال بأمره لأن مثله لا يستحق بذلك إلا الطرد والإبعاد من الملك وهذا والعياذ بالله تعالى هو الذي كان يخاف أن يلحقه من جناب سيده ، ولما علم أنه هو وجميع الخلق في هذا الميدان على حد سواء رجع إلى التوسل إلى الله تعالى برسوله الذي هو وسيلة جميع المخلوقات إليه تعالى في جميع التوجهات والمطالب لعلمه بعلو مقداره عند الله تعالى وشفوف مرتبته لديه وعلو اصطفائه على جميع خلقه وعلمه بأن الله تعالى لا يقبل العمل من كل عامل إلا بالتوسل إلى الله تعالى به صلى الله عليه وسلم

فمن طلب القرب من الله تعالى والتوجه إليه دون التوسل به صلى الله عليه وسلم معرضا عن كريم جنابه ومدبرا عن تشديد خطابه كان مستوجبا من الله غاية السخط والغضب وغاية اللعن والطرد والبعد وضل سعيه وخسر عمله ولا وسيلة إلى الله تعالى إلا به صلى الله تعالى عليه وسلم وامتثال شرعه وهذا الذي ذكرناه هنا يكفي مقصدا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لمن علمه بقلبه ولم ينطق به بلسانه إذا كان مستحضرا ذلك من أول الورد إلى الختم مع أن المقصد الذي ذكرناه أولا يكفي لمن أراد الشروع في الأوراد اللازمة من غير تفصيل وإذا نطق به وقت الشروع بلسانه مستحضرا معناه في قلبه يكفيه في الورد والوظيفة والذكر الذي يفعل بعد عصر يوم الجمعة

ولكن إذا أردت أن نزيدك مقصدا واحدا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لرغبتك فيه فقُـل بلسانك مستحضرا معناه في قلبك : )اللهم إني نويت أن أتقرب إليك بالصلاة على رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم عبادة وتعظيما وابتغاء مرضاتك ومرضاة رسولك الكريم ومقصدا لوجهك العظيم لك من أجلك مخلصا لك وأنت الذي مننت عليّ بهذا وتفضلت به عليّ لبيك اللهم وسعديك والخير كله بيديك اللهم صل على سيدنا محمد إلى آخره( .

 ثم إنه لما توسل إلى الله تعالى بسر خليقته وعروس مملكته وزين بريئته وسيد أهل المعرفة واتخذه مسايرا له في طريقه وإماما له في حضوره وغيبته صلى الله تعالى عليه وسلم ما قسم الله تعالى على قدر حاله ومقامه وأمره صلى الله عليه وسلم بقدر ما كان وردا له في ذلك المجلس واكتسب من أنوار هذا النبي الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم من الأسرار والأنوار والأحوال والأخلاق والعلوم بقدر حاله ومقامه ما يزداد به إيمانا وطهارته ويقينه وإخلاصه وحبه في الله تعالى واستغراقه في التوجه إليه والتبري من سواه ليكون بذلك صالحا به التوجه إليه بذكر الكلمة المشرفة لأنه صلى الله عليه وسلم أكرم على الله تعالى من أن يتوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم متوسل إلى الله تعالى وكان صادقا أن يخيب الله تعالى له أمله ويضيع سعيه..

 أراد أن ينتقل إلى ذكر الكلمة المشرفة ولما علم أن من استغرق في ظهرها ربما ظهر له الشيطان ويقول له : أنا ربك أو يظهر له اللعين صورة من الصور ويقول له : إن الذي رأيته هو ربك وتخيل نفسه شيئا في الخيال أو في نظره فيظن أنه ربه قدم قبل الشروع مقصدا فيها بهدم جميع ذلك ويكون ذلك المقدم بين عينيه لا يغفل عنه إذا اعتراه في أثناء الذكر وهو هذه الآية الشريفة : {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} ثم أردف ذلك بالسلام على جميع إخوان هذه الوسيلة وهم جميع الرسل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام مع كونه صلى الله تعالى عليه وسلم إمامنا ونبينا ووسيلتنا إلى ربنا لكنا لما كنا مأمورين بالإيمان بهم وعدم التفريق بين أحد منهم ومأمورين بتعظيمهم كان علينا أن نعظمهم ونسلم عليهم ولا شك أننا نستمد منهم ما يزيدنا قوة وثباتا وانشراح صدر لذكر هذه الكلمة الشريفة ومع ذلك أننا ما سلمنا عليهم بانفرادهم بل على نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم ليكون استمدادنا منهم تابعا لاستمدادنا منه صلى الله عليه وسلم لما علم أن التوفيق إلى التوسل إلى الله تعالى به صلى الله عليه وسلم وبالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وبالسلام عليه وعلى جميع الرسل عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم وأن جميع ما حصل من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومنهم عليه وعليهم من الله تعالى أفضل الصلوات وأتم التسليمات من الإفراد محض منة من ربه المنان رجع إلى حمده تعالى وحده بقوله : {والحمد لله رب العالمين}

ولما اكتسب بفضل الله تعالى من جميع ما تقدم الصلاحية لذكر الكلمة الشريفة شرع في ذكرها بقوله : لا إله إلا الله ثم إنه لما حصل له شهود الاستغراق في شهود المذكور وعلم أنه لا يثبت للاستغراق بشهوده تعالى على الوجه الأكمل إلا الذي توسل به إلى الله تعالى وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى لا يقبل عملا من عامل إلا بالتوسل به صلى الله عليه وسلم وإن شكر الواسطة هو الوجه الأكمل لأنه هو الجامع بين الشريعة والحقيقة وأنه وإن رجع إليه صلى الله تعالى عليه وسلم يستمد منه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يزيده قوة وثباتا على دؤب الاستغراق بشهوده تعالى رجع إلى الإقرار بالرسالة له صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله في المرة الأخيرة من ذي الكلمة الشريفة : محمد رسول الله ولما علم أن إشراكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرسل في السلام المتقدم ما يوفي ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الحقوق سلم عليه صلى الله عليه وسلم خاصة بقوله : عليه سلام الله

ثم إنه إن كان في (الوظيفة) يزداد رجوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه هو البرزخ الأعظم بينه وبين الحق بل وبين جميع المخلوقات والحق لعلمه أن جميع ما ناله من الله تعالى من الخيرات إنما ناله بتوسله إلى الله تعالى به صلى الله عليه وسلم بل لولا ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسراية روحانيته صلى الله عليه وسلم في ذاته وأعضائه وروحه بما وجد فضلا من أن يؤمن فضلا من أن يذكر فضلا من أن يقبل ذكره بل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذاكر لله تعالى والمتوجه إليه والمصلي على نفسه والعابد لله تعالى في ذوات جميع الذاكرين والمتوجهين والمصلين عليه صلى الله عليه وسلم والعابدين لأنه صلى الله عليه وسلم هو روح رحم به جميع الوجود وبه بقاء الوجود وبه جميع ما نالوه من الخيرات الدنيوية والدينية والأخروية وهو أصل المخلوقات كلها ومنه وجدت كما تقدم

ولما علم جميع ما تقدم رجع إلى شكر المنعم بشكر الواسطة بمدحه بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بصلاة جمعت بين مدحه صلى الله عليه وسلم وبالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بقوله :

(اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية .. إلى آخره) ولا شك أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بمدحه بأنه هو عين الرحمة الربانية فيه إعلام بأن الذاكر لما ختم ذكره بهذه الصلاة كان من أكمل الرجال لأنه جمع بين الشريعة والحقيقة حيث امتثل أمر مولاه بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وبالتوسل به إلى مولاه أيضا وبشكره صلى الله عليه وسلم حيث كان ظهوره وخلقه وبعثه وكونه لنا رحمة ومع ذلك إنما نسب الرحمة إلى الرب لأنه هو الراحم حقيقة

 ثم أنه لما ختم العدد الذي يقرؤه من جوهرة الكمال (12) صار كأنه يسمع هاتفا من الهواتف الحقية يقول له : احذر يا عبدي أن يقع في وهمك أنك وفيت شيئا من حقوق نبيي ورسولي وسر خليقتي بهذه الصلوات التي صليت بها وأنه ينتفع بها فأنا بعظمتي وجودي وسعة ملكي وغناي وملائكتي الكرام نصلي عليه فلا يحتاج مع ذلك إلى صلاتك ولا إلى صلاة غيرك وإنما أمرتك بالصلاة عليه لتكون مقبولا عندي ببركة توسلك به إلي

فأجابه الذاكر بسرعة ليعلم نفسه بما خوطب به بقوله : {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} فأجاب فورا بقوله : صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

 ثم صار كأنه يسمع هاتفا من الهواتف الحقية يقول له ثانيا : وإذا كان في مخلوقاتي من صار لمكانته عندي وعلو شأنه لديّ وحبي فيه غنيا عن جميع خلقي وجميع خلقي محتاجون إليه فكيف بربه الذي له الألوهية والربوبية واحذر يا عبدي أن تنسب لي شريكا أو شبيها أو افتقار إلى عبادتك أو إلى شيء ما ولذلك أجاب فورا بقوله : سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، ولما بلغ به الأمر إلى هذا الحال صار كأنه يسمع هاتفا من الهواتف الحقية يقول له : اعلم أيها العبد أنك لو ارتقيت إلى ما عسى أن ترقى إليه من مقامات القرب والدنو والوصول إلى حضرة الحق تعالى لا تكون عنده مقبولا ولا تسلم من المصائب الدنيوية والدينية والأخروية إلا بالتوسل برسله إليه لأنك ما سلمت من الشرك وغيره إلا ببركتهم واتباع ما أتوك به منه وحيث كان الأمر كذلك فسلم عليهم تعظيما لهم لتعظيم الحق تعالى وإياهم وذلك يستدعي تسليم الحق تعالى عليك لأن عنايته برسله توجب أن يعتني بمن عظمهم ونفع تسليمك عليهم عائد إليك لا إليهم لأن تسليمك عليهم لا يزيدهم فأجاب هذا الهاتف بقوله : وسلام على المرسلين ، ولما بلغ به الأمر إلى هذا الحال صار كأنه يسمع أيضا هاتفا من الهواتف الحقية يقول : اعلم أن نعمة بعث الرسل إليك وغيرها من النعم الظاهرة والباطنة التي أسبغها الحق تعالى عليك وعلى غيرك منه تعالى وحده فاحمده وحده كما أنه هو المنعم وحده ليس بيد غيره نفع ولا ضر ولا جلب ولا دفع في العاجل والآجل فأجاب هذا الهاتف بقوله : والحمد لله رب العالمين .

 ولما كان ذكر الكلمة الشريفة هو المقصود الأعظم من الأذكار لأن الاستغراق بشهود المذكور لا يحصل للعبد إلا إذا حصل له التوحيد الحقيقي ولا شيء يثمر للعبد التوحيد الحقيقي مثل ملازمة ذكر الله تعالى على الدوام والكلمة الشريفة أفضل الأذكار لأن ثمرات الأذكار مجموعة في ذكر الفرد .

 وفي التسهيل لابن جزي بتقديم بعض كلامه وتأخير بعضه : واعلم أن الذكر أنواع كثيرة فمنها الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتهليل والتسبيح والتكبير والتحميد والحوقلة والحسبلة وذكر كل أسماء الله تعالى ،

أما الاستغفار فثمرته الاستقامة على التقوى والمحافظة على شروط التوبة مع انكسار القلب بسبب الذنوب المتقدمة ، وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فثمرتها شدة المحبة فيه والمحافظة على اتباع سنته ، وأما التهليل والتوحيد أعني التوحيد الخاص فإن التوحيد العام حاصل لكل مؤمن ، وأما التسبيح فثمرته ثلاث مقامات وهي الشكر وقوة الرجاء والمحبة فإن الحسن محبوب لا محالة ، وأما الحوقلة والحسبلة فثمرتها التوكل على الله تعالى والتفويض إلى الله عز وجل والثقة بالله سبحانه ،

ثم إن ثمرات الذكر بجميع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قوله : الله الله فذلك هو الغاية وإليه المنتهى ، وإذا كان الأمر هكذا فاعلم أن "للذكر الذي يقرأ بعد عصر يوم الجمعة" مقاصدا تحوي أسرارا لا يمكن لي ذكرها كلها ولكني أذكر منها ما يمكن ذكره

(أولها) أن ينوي الذاكر شكر الله تعالى على ما أوفقه من النهوض إلى ذكره ويسر له إتمام ما التزمه من الأذكار اللازمة ستة أيام فإذا فرغ من الستة يتعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثم يستعين بالله تعالى على الشروع في الذكر وفي إتمامه على وجه يرتضيه ربه المحسن إليه قائلا : {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ،

(وثانيها) أن ينوي (بالاستغفار ثلاث مرات) الطهارة من الذنوب والاستقامة على التقوى والمحافظة على شرط التوبة ، (وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات) العبودية لله تعالى والتعظيم له ولابتغاء مرضاته ،

(وثالثها) أن يستحضر في قلبه ويتلمح بنظره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الشيخ الحقيقي لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي سن تلقين هذه الكلمة الشريفة كما تقدم لأنه صلى الله عليه وسلم لقنها عليا وهو صلى الله عليه وسلم قال ثلاث مرات لا إله إلا الله وعلي يسمع ثم أنه صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله تعالى عنه أن يقولها ثلاث مرات وهو صلى الله عليه وسلم يسمع ، فإذا علم الذاكر هذا الأصل كان الاستغفار ثلاث مرات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك مذكورين له هذا الأصل فإذا تذكره صار كأنه ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حصل له هذا الشهود وعلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الواسطة على الحقيقة وشكر الواسطة مطلوب شرعا علم أن أحدا لا يشكره بأفضل من الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم تلا الآية الشريفة بقوله : {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} لتكون تلاوته إياها مذكرة له بتعظيم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأجاب بسرعة : صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ،

(ورابعها) أن يقصد بذكر الكلمة الشريفة تنزيه الحق عن كل ما لا يليق بجلاله وعلوه وعظمته وكبريائه ولما علم أن الحادث عاجز عن معرفة القديم فضلا عن أن ينزهه التنزيه الذي يليق به قال : سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، ولما كان علم الذاكر أن توحيد الحق تعالى وتنزيهه عن جميع النقائص لم يحصل له إلا من تبليغ الرسل ذلك من ربهم عمم السلام على جميعهم بعد تخصيص سيد الخلق به عليه وعليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأتم التسليم بقوله : وسلام على المرسلين ،

(وخامسها) أن يكون مقصود الذاكر بذكر الكلمة الشريفة أيضا قطع العلائق والعوائق التي تصده عن الإقبال إلى مولاه والتدبير عن كل ما سواه وذلك لمعرفته أن ما سوى الحق تعالى مملوك ومقهور لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا جلبا ولا دفعا وأن الخير دنيا وبرزخا وأخرى بيد الحق تعالى وكل ما سواه عاجز ومفتقر إليه على جميع الأحوال ولما علم هذا استراح عما كان يجده من الاشتغال بسوى ربه ورجع إلى مولاه وشكره على ما أولاه من تعليمه فإنه لا يستحق أن يحب لذاته سواه ولا أن يحمد من عداه فضلا عن أن يعتمد عليه أو يعبده بقوله : والحمد لله رب العالمين

ولما تم الفرح بمولاه واستغرق في حبه واستولى عليه سلطان محبته وسرت في جميع عوالمه روحا وعقلا وقلبا وقالبا حسا وعنا فكرا وخيالا شرع في ذكره بقوله : (لا إله إلا الله) واستمر على الذكر فإذا حصل له الاستغراق في مشاهدة المذكور ترك النفي واكتفى بالإثبات بقوله : الله الله الله إلى آخر المجلس ،

 (وسادسها) أن يعلم أن المقصود الأعظم من هذا الذكر وتكثيره تعظيم يوم الجمعة لأن الله تعالى عظمها وتعظيم ما عظمه الله تعالى واجب ويشهد لما ذكرناه ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود وابن ماجه وابن حبان عن أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أفضل أيامكم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي " وما رواه بن ماجه بإسناد جيد عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة "

وتعظيم الأزمنة والأمكنة التي عظمها الله تعالى إنما هو بزيادة العبادة وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون برمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة قال ابن أبي جمرة في بهجة النفوس : والكلام عليه من وجوه منها أن فيه دليلا على تعظيم شهر رمضان يؤخذ ذلك من كثرة نزول جبريل عليه الصلاة والسلام فيه لتدريس القرآن إلى أن قال : وفيه دليل على أن تعظيم الأزمنة التي عظمها الله تعالى والأمكنة إنما هو بزيادة العبادة فيها يؤخذ ذلك من فعل جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان في كل ليلة يدارسه القرآن وما ذاك إلا لينبه الأمة على كيفية التعظيم له وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه قال : فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني امرأ صائم أو كما قال صلى الله عليه وسلم وقال الله عز وجل في حق الأشهر الحرم تعظيما لها :{ منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } وعدم الظلم يتضمن الإحسان وهو زيادة العبادة

 وإذا تحرر هذا وفهمته فاعلم أنما يذكره المنفرد من الكلمة الشريفة في الورد اللازم الذي يذكر صباحا ومساء وفي الوظيفة مرة واحدة في كل يوم من الأيام الستة التي هي السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس (ألف وثمانمائة) وهذا العدد بعينه هو الذي يذكره المنفرد من الكلمة الشريفة تذكر ثلاثمائة مرة في كل يوم (مائة في ورد الصباح ومائة في ورد المساء ومائة في الوظيفة) وإذا ضربت ثلاثمائة في ستة يحصل لك ثمانية عشر مائة وهي (ألف وثمانمائة) مرة والمنفرد يذكر الكلمة الشريفة ثلاثمائة مرة يوم الجمعة من غير ما يذكر منها بعد عصر يوم الجمعة مائة في ورد الصباح ومائة في ورد المساء ومائة في الوظيفة ويذكر منها بعد عصر يوم الجمعة ألفا وخمسمائة فإذا جمعت ما ذكرنا يحصل لك ألف وثمانمائة مرة وبهذا البيان تعلم أن المنفرد يذكر من الكلمة الشريفة في اليوم الشريف الذي هو يوم الجمعة قدر ما ذكره منها في الأيام الستة كلها

وإذا فهمت هذا علمت أن الشيوخ من أعظم نعم الله التي أنعم الله تعالى بها على التلاميذ وأنهم من أعظم جنود الله تعالى يسوق بهم المريدين والطلبة إلى حضرته تعالى إذ لولا الشيخ ما قدر أحد أن يلتزم بنفسه على نفسه فعل هذا الخير والدوام عليه على هذه الكيفية العجيبة وتعلم أيضا أن هذه الزيادة إنما هي تعظيم لهذا اليوم فإذا كان هذا المنفرد هكذا فما ترى المجتمعين لذكرها وكانوا جماعة كثيرة يحصل لكل واحد منهم ثواب ذكر رفيقه وأسراره وأنواره وإذا كان هذا في الأذكار اللازمة وفي الورد اللازم وفي الوظيفة اللازمة فماذا ترى في تلك الأذكار التي تذكر بالإذن الصحيح ولم تكن لازمة وإذا كان هذا في نهارها فماذا ترى فيمن يحيي ليلها بصلاة الفاتح لما أغلق بالإذن الصحيح ولم تكن لازمة مع ما اشتملت عليه الصلاة من الفضائل التي تقدم ذكرها في فصل فضائل الأذكار اللازمة ،

(وسابعها) أن يعلم أنه ينبغي للذاكر أن يقصد بهذا الذكر الواقع بعد عصر هذا اليوم الشريف شكر مولاه الذي امتن عليه بإيجاده في آخر هذا اليوم الشريف حين أوجد أبا البشر آدم عليه السلام فيه ولم يزل مولاه الكريم يحفظه بحفظ أصوله وينقله من أصل إلى أصل حتى أخرجه من اصله القريب سالما وحفظه حتى امتن عليه بمحض فضله بالإيمان به وبرسله وبكل ما بلغوا عنه تعالى .

(وثامنها) أن يعلم الذاكر أن الله تعالى تاب على أبيه آدم في هذا اليوم وفي هذه الساعة من ساعاته لرجوعه إلى ربه بالإقرار بالربوبية وتذلله بين يديه بقوله : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } فبيّن تعالى أنه تاب عليه بقوله تعالى : {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} وهذا السر العظيم من الأسرار التي جعل هذا الذكر من أجلها في هذه الساعة وفي هذا اليوم ولا أحد يرجع لمولاه بأفضل من هذه الكلمة الشريفة فمن رجع إليه بها في هذا اليوم وفي هذه الساعة من أولاده تاب عليه مولاه

 وإذا فهمت هذا فلا غرو أن يحذو الفتى حذو والده . وفي السراج المنير عند قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} روى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه السلام وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وهو عند الله تعالى يوم المزيد" ،

(وتاسعها) أن هذا اليوم عيد عظيم لهذه الأمة الشريفة ويوم العيد يكرم فيه الناس بألوان الأطعمة والأشربة وهذا العيد يكرم فيه المؤمنون بزيادة الأنوار والأسرار والمعارف والأحوال السنية والأخلاق الذكية وهذه الساعة الشريفة التي يذكر فيها أهل هذه الطريقة الشريفة هذه ساعة من ساعاته ولا شك أن الله تعالى يزيد أهل هذه الطريقة في الساعة عند ذكر هذه الكلمة من الخيرات زيادة لا يعلم قدرها إلا الله تعالى لأن هذا اليوم الشريف يسمى يوم المزيد .

مع فائدة أخرى تحصل لهم في هذه الدنيا وهي أن المعرفة بأنها هي الساعة التي تقوم فيها القيامة تعينهم على الحضور عند ذكر الكلمة الشريفة والاعتناء بتدبير معانيها وفهم أسرارها وحقائقها والعمل بمقتضاها تخليا وتحليا وتخلقا وتحققا وتعلقا .

 وقال ابن العربي في الأحوذي : الجميع من الفضائل وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود هذه الذرية وهذا النسل العظيم ووجود الرسل والأنبياء والصالحين والأولياء ولم يخرج منها طردا بل لقضاء أوطار ثم يعود إليها ، وأما قيام الساعة فسبب لتعجيل ثواب النبيين والصديقين والأولياء وغيرهم وإظهار كراماتهم وشرفهم انتهى . وبهذا تعلم أن وقوع هذا الذكر في هذه الساعة واقع موقعه لأن من وفقه الله تعالى لتعمير هذه الساعة بهذه الطاعة كان من الفائزين السابقين يوم القيامة .

فقد اتضح لك مما تقرر أن إيقاع هذا الذكر في هذا اليوم المبارك وفي هذه الساعة المباركة واقع موقعه فجزى الله تعالى عنا سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم الذي رتب هذه الأذكار لسيدنا أحمد رضي الله تعالى عنه ولقنه إياها وجعلها له صلى الله تعالى عليه وسلم في الساعات الشريفة التي منها هذه ما هو أهله ،

وحادي عشرتها أن يعلم أن نيل جميع أسرار هذا الذكر وثمراته منوط باتصاله للغروب وكيف لا وقد ورد في بعض الأحاديث : الساعة التي يستجاب فيها الدعاء هي آخر ساعة بعد العصر . وفي الإبريز : قال أبو داوود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يوم الجمعة ثنتا عشرة يعني ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئا إلا آتاه فلتمسوا آخر ساعة بعد العصر قال عبد الحق في إسناده : الحلاج مولى عبد العزيز بن مروان وقد ذكره أبو عمر بن عبد البر بن عبد السلام بن حفص ويقال له ابن مصعب عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أن الساعة التي يحرى فيها الدعاء يوم الجمعة هي آخر ساعة من الجمعة أهـ

ورفع همته عمن هذه صفته إلا مولاه وخالقه القهار القادر الغني الذي خضع له كل شيء هو اللائق وعلمه أيضا أن جميع ما في الأرض مخلوق له فعلا يشتغل به عن مولاه وعلمه أيضا أن أباه آدم عليه السلام اصطفاه هذا الخالق وفضله على جميع مخلوقاته التي ليست من جنس هذه النشأة الآدمية وأسجد له ملائكة قدسه وتفضل أبيه إنما هو بالإشتغال بأمر خالقه فيه فبه استحق الخلافة فعلام يخالف أباه في الاشتغال بأمر الخالق ويشتغل بأمر المخلوق ويحط بذلك عن ميراثه الذي كان ينال من أبيه لو اتبع سبيله وإذا كان هذا منظره فلا غرو أن يحذو الفتى حذو والده

ولما علم هذا كله وعلم أن الجمعة سيد الأيام لتعظيم الله تعالى إياه وترغيبه في تكثير الذكر في الساعات التي بعد صلاة الجمعة وهذه الساعة منها وتعليقه الفلاح بفعله لقوله تعالى :{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } علم بالضرورة أن الالتفات إلى غير هذا الرب الكريم والمولى العظيم محض سفه وجنون فلذلك شرع في الاستغفار من كل ما يوجب الاشتغال عنه بسواه

وقال : أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاث مرات ثم أتى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليكون دليلا له إلى مولاه الكريم وقال : اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق إلى آخر ثلاث مرات ثم نبه نفسه على تعظيم الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ثم امتثل أمر مولاه إياه بتعظيم هذا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الوارد في هذه الآية الشريفة قال : صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ثم نزه مولاه عما لا يليق بتعظيمه وجلاله وكبريائه وعلوه وقال : سبحان ربك رب العزة عما يصفون ثم رجع إلى التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وبجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام بالسلام عليهم أن يشفعوا له عند ربهم أن يطهره من كل عيب وشين يوجب له الالتفات إلى غيره وقال : وسلام على المرسلين ثم حمد الله تعالى على ما ألهمه ووفقه لفعل ما تقدم وقال : والحمد لله لرب العالمين

ثم ترقى إلى الإقرار بالوحدانية له تعالى في أفعاله وأسمائه وصفاته وذاته ونفى الشركة والتشريك له في أي شيء ما وقال : لا إله إلا الله على قدر ما قدر الله تعالى له ثم أنه لما غاب عن وجوده ووجود غيره لاستغراقه في مشاهدة من كوره الذي هو مولاه من الله تعالى برده إلى التوسل بسيد أهل الحضرة لتكون واسطته صلى الله تعالى عليه وسلم بينه وبين الحق مقوية على الثبوت لهذا الشهود بقوله : محمد رسول الله عليه سلام الله ولما حصل له بواسطته صلى الله عليه وسلم قوة زائدة على ما حصل له قبلها انتقل من مقام النفي إلى مقام الإثبات لفاء كل ما سوى الله تعالى عن نظره شهودا واعتذارا فقال : الله الله الله إلى منتهى ما قسم له في ذلك المجلس وبهذا تعلم أن المقصود الأعظم من هذا الذكر انتقال الذكر من رؤية الأكوان إلى الاستغراق برؤية المكون لأنه زبدة جميع الأذكار المتقدمة في الأيام الستة لما تقدم من أن ثمرات الذكر بجميع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قولنا : الله الله الله هو الغاية وإليه المنتهى لأن الذي يكرر ويقول : الله الله الله يحث نفسه وسامعه على ملازمة ذكره والجمع على مسماه سبحانه وتعالى بالرجوع إليه تعويلا واستنادا واعتمادا وتوكلا والتجاء ومحبة وتعظيما واعتبارا في جميع الأمور بحيث لا يستند إلى أمر من الأمور إلا كان المطلوب من العبد الرجوع إلى الله تعالى فيه كان الذي يذكر هذا الاسم يقول : عليك بالله

وإن شئت قلت : إن ذاكر هذه الكلمة كون اهتمامه في ابتداء أمره تطهير قلبه من الشرك بنفي الشريك لمولاه كأنه يقول لا معبود بحق سواه ثم انتقل إلى نفي التوهمات التي تعرض له من خوف مخلوق أو طمع فيه لأنه لا محيي ولا مميت ولا نافع ولا ضار إلا الله لا معطي ولا مانع إلا الله لا معز ولا مذل إلا الله ولا قابض ولا باسط إلا الله تعالى إلى غير ذلك مما يطول ثم انتقل إلى نفي تعلقه بمحبوب له مع الله تعالى ونحو ذلك كأنه يقول : لا محبوب إلا الله تعالى لا مطلوب إلا الله تعالى لا مراد إلا الله تعالى لا مختار إلا الله تعالى أي لا أحد يستحق أن يحب أو يطلب أو يراد أو يختار لذاته من ذاته لأن يحب ويحمد ويشكر ويعبد ويتذلل ويخضع له ويخاف ويرجى ويعظم ويطاع ويحذر من مخالفته ولا يلتفت إلى غيره

ولما انتقل إلى هذه الحالة صار كأنه يسمع هاتفا من الهواتف الحقية يقول له : ما مطلوبك ؟ فأجاب بقوله : الله الله الله ثم إن الله تعالى لما تمم له ما قدر أن يجري على لسانه من هذا الذكر ألهمه التعوذ من الشيطان الرجيم ليرده عن رؤية حوله وقوته فقال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولما رجع إلى مولاه واعترف بعجزه ألهمه تعالى حمده وشكره على ما منّ به وأسبغ عليه من النعم الظاهرة والباطنة التي من جملتها هذا الذكر الشريف وقال فرحا وسرورا بهذا المولى الرحيم المنعم الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إلى آخره ولما شكر المنعم على الحقيقة رجع إلى شكر الواسطة ليجمع بين الشريعة والحقيقة وقال امتثالا لأمر مولاه : اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق إلى آخره وقرأ هذه الصلاة ثلاث مرات للسر الذي سبق ذكره

ثم قرأ ما يشير إليه إلى أنه إنما صلى على هذا النبي لتعظيمه وحبه وامتثال أمر مولاه حيث أمره بذلك وقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ثم لما علم أنه لا يكون مقبولا عند هذا الملك العظيم ولو بلغ في الاجتهاد في عبادته تعالى ما بلغ إلا بتعظيم هذا النبي الكريم والاجتهاد في تبجيل جنابه الجسيم وجاهه العظيم وإكثار التوسل به إلى ربه الرحيم رجع إلى الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إعلاما بأنه امتثل أمر مولاه الوارد في هذه الآية الشريفة حيث عمل بمقتضاها قبل تلاوتها وبعدها فقال : صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ولما علم أن تنزيه الحق تعالى كما ينبغي لجلاله وكبريائه وعلوه وعظمته غير مقدور له إنما ينزه الحق تعالى على قدر معرفته به ومعرفة ذات الحق تعالى وصفاته وأسمائه على ما هي عليه غير مقدور له كما قال تعالى : {وما قدروا الله حق قدره} ومن رام أن يقف على حقيقة ذلك خسر دنيا وبرزخا وأخرى لذا توعد تعالى بقوله : {ويحذركم الله نفسه} رجع إلى أعلى المقامات وهو الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه ذاته وقال : سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، ولما علم أن هذا العلم النافع إنما ناله بواسطة رسل الله تعالى رجع إلى السلام على جميعهم لعلمه بأن علم شكر الواسطة واجب شرعا قال : وسلام على المرسلين ، ثم إنه لما علم أن الإنعام عليه بتوفيقه لفعل ما ينفع وصرفه عن فعل ما يضر الله تعالى وحده ترقى عن شكر الواسطة إلى شكر المنعم الحقيقي وقال : الحمد لله رب العالمين .

فإن قلت : فلم لا يكتفي الإنسان بعلم الباطن المسمى علم الحقيقة فيعمل بها حيث كانت هي المقصودة بالذات فلم يقدم على الظاهر المسمى بالشريعة التي هي الوسيلة فأي فائدة في إحرام الوسيلة والاستعمال بها والتوسل بها بعد حصول المقصود بالذات ؟ قلت : اعلم وفقني الله تعالى وإياك لما يحبه ويرضاه أن علم الشريعة الذي هو علم الظاهر وسيلة إلى المقصود بالذات الذي هو علم الحقيقة كما ذكرت وعلم الحقيقة أفضل وأشرف منه إلا الانتفاع بعلم الحقيقة منوط باستصحاب علم الشريعة .

قال الشيخ أحمد بن المبارك في الإبريز أن شيخه عبد العزيز بن مسعود القطب رضي الله تعالى عنهما قال : إن علم الباطن إذا لم يكن معه علم الظاهر قلَّ أن يفلح صاحبه ، وقال أيضا أنه قال : إن علم الباطن بمثابة من كتب تسعا وتسعين سطرا بالذهب وعلم الظاهر بمثابة من كتب السطر المكمل مائة بالمداد ومع ذلك فإن لم يكن السطر الأسود مع سطور الذهب المذكورة لم تفد شيئا وقل أن يسلم صاحبها

ثم قال لي مرة أخرى : إن علم الظاهر بمثابة الفنار الذي يضيء ليلا فإنه يفيد في ظلمة الليل فائدة جليلة وعلم الباطن بمثابة طلوع الشمس وطلوع أنوارها وقت الظهيرة فربما يقول صاحبه : لا فائدة في هذا الفنار الذي في يدي قد أغناني الله تعالى بضوء النهار وعند ذلك يذهب عنه ضوء النهار ويعود إلى ظلام الليل فبقاء ضوء نهاره مشروط بعدم إطفاء الفنار الذي بيده وكم واحد زل في هذا الباب ولا يرجع له ضوء نهاره إلا إذا أخذ الفنار وأشعله مرة ثانية وقد يوفقه الله تعالى وقد لا يوفقه نسأل الله السلامة والعافية بمنه وكرمه اهـ .

قلت : وكم من متوسل به إلى مقصود فيحصل ذلك المقصود لطالبه ثم تكون طاعة الوسيلة والتزام واحترامه ودوام التوسل به شرطا في دوام ذلك المقصود الحاصل لطالبه وذلك كالرسل مع أممهم فلا شك أن المقصود الأعظم من بعث الرسل إلى الخلق تبليغ أوامر الله تعالى ونواهيه إلى من أرسلوا إليهم وأن المقصود الأعظم للذين صدقوا الرسل وآمنوا بالله تعالى وبكل ما جاءوا به عن الله تعالى أن تدلهم الرسل على الله تعالى وتجمعهم عليه حتى يحصل لهم العلم به تعالى ومعرفته ومعرفة رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وجميع ما اشتمل عليه والإيمان بجميع ما يجب الإيمان به ومعرفة أحكامه التكليفية وكيفية التعبد بها ومعرفة ما يقرب إليه وما يبعد والعمل بمقتضاه وإذا حصل ما ذكر فقد حصل لهم المقصود بواسطة الرسل بينهم وبين ربهم إلا أن الانتفاع بما حصلوا مشروط منوط ببقاء توسلهم بالرسل إلى الممات ومتى انقطعت الواسطة بين أحد وبين الرسل يكفر في تلك الساعة والعياذ بالله تعالى .

وكذلك المريد من شيخه فإن المريد إذا انتهى سيره ووصل إلى الحضرة الإلهية ينفصم عنه شيخه مع أن فلاح المريد وانتفاعه بما حصل منوط ببقاء احترامه لشيخه وعدم مقاطعته واستهانته مع أنه قد زال تقيده بالشيخ وصار مستقلا بنفسه وهو مع ما يلقي الله تعالى إليه إذا تأهل لذلك تأهلا تاما كاملا لكن متى زالت حرمة الشيخ من قلبه وتعظيمه خسر في الحال نسأل الله السلامة والعافية بمنه وكرمه .

وسئل سيدنا سيدي أحمد التجاني رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به كما في جواهر المعاني : هل غاية تولي الشيخ للمريد وصوله للحضرة الإلهية ثم ينفصم عنه ؟ أو لا ينفصم عنه أبدا ؟ فأجاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به : اعلم أنه ينفصم عنه عند وصوله إلى مطالعة الحضرة الإلهية ولا يبقى عليه من ملاحظة الشيخ إلا تعظيمه واحترامه وإجلاله ومعرفة شفوف رتبته عليه فإنه إن قطع التلميذ نظره عن هذا في حق شيخه سلب وطرد اهـ

وإذا فهمت ما قدمنا وتحقق فهمه لديك علمت حكمة قراءة هذه الأوراد على هذا الترتيب العجيب وكيف لا ونور الأنوار وسر الأسرار سيد الوجود وعلم الشهود سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الذي رتبها على هذه الكيفية العجيبة والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والسلام .

وأما المقصد الذي تختص به صلاة الفاتح لما أغلق فلا يمكن لنا كتبه بل نكتفي بالمقصد المتقدم الذي يعمها وغيرها ولكنا نتكلم بشروطها التي منها معرفة المقصد فنقول : شروطها عشرة أولها الإذن من القدوة أو لمن أذن له وثانيها أن يعتقد أنها من كلام الله تعالى وثالثها استحضار الصورة الكريمة بين يديه ورابعها أن يتلمح معنى الصلاة بقلبه وخامسها أن يعتقد أن الله تعالى ينوب عليه في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وسادسها أن يعتقد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم عين الذات وسر الذات وسر الموجودات وسابعها أن الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد وثامنها أن يستحضر معنى ألفاظ الصلاة وتاسعها القصد وهو تكون قوة التأثير في النفس وعاشرها أن ينوي عند إرادة الصلاة التعظيم والإجلال لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لا لشيء آخر فمن صلى على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهذه النية كانت المرة الواحدة من صلاته لو ضرب العالم في نفسه مائة ألف مرة وقسمت صلاته عليهم لكفرت جميع ذنوبهم .

قلت : وهذا المقصد لا يكتب في الأوراق وإنما يذكر مشافهة لمن حسن أدبه وراق ومن عرف هذا المقصد بلغ غاية القصد والحمد لله الذي منّ علينا بمعرفته . وأما مقصد الذكر فهو هذا : {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} لبيك يا ربي وسعديك والخير كله في يديك وكل شيء منك وبك وإليك وأمتثل أمرك وأواصل ذكرك إفرادا وبك أستعين استنجادا فأقول بإمدادك : الله الله الله وهذا آخر ما أردنا ذكره من هذه المقاصد وبقيت مقاصد أخرى لم تذكر لموانع قامت بنا في هذا الوقت ولعلنا نذكرها في وقت آخر إذا ارتفعت عنا تلك الموانع إن شاء الله تعالى والله تعالى الموفق بمنه للصواب وإليه سبحانه المرجع والمآب . 
           


إرسال تعليق

0 تعليقات