الطريقة



وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا


وسألته رضي الله عنه عن معنى قوله تعالى :   وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا   ، هل المراد من تعليم الله لآدم أسماء الله تعالى كلّها إحاطيّا كليّا من أسماء الله الظاهرة والباطنة والتي استأثر الله بها عن جميع المخلوقات حتّى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو خاصّا بالأسماء التي يطلبها الكون . فإنْ قلنا خاصّ بأسماء الكائنات فما فائدة قوله كلّها ، وإنْ قلنا بالإحاطة فكيف مع عِلْمِنَا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعلى من آدم وأكمل ؟ 


فأجاب رضي الله عنه بقوله : إعلم أنّ الأسماء التي علّمها الله لآدم هي الأسماء التي يطلبها الكون ، والكُلِّيَّة المذكورة فيها هو إحاطته بجميع مُتَعلّقات الكون حتّى لا يشذّ عليه منها شيء ، يشهد لهذا قوله سبحانه وتعالى في كلّيّة الأسماء حيث عرض صورة الكائنات على الملائكة وقال :   أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ   الآية ، فدلّتْ هذه الآية على أنّها الأسماء التي يطلبها في الكون بدليل قوله أسماء هؤلاء وهي صور الأكوان . وأمّا الأسماء الخارجة عن الكون فلا تُمْكِنُ الإحاطة بها ولا نهاية لها ، قال سبحانه وتعالى :   وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا   

 فإنّ العارفين والأقطاب والنبيّين والمرسلين مع فتْحِهم في المعرفة ينكشف لهم في كلّ مقدار طرفة عين من أسماء الله الباطنة أمْرٌ لا حدّ له ، ثمّ يبقون على هذا الحال أبدا سرمدا في طول عمر الدنيا وفي طول عمر البرزخ وفي طول عمر يوم القيامة وفي طول عمر الأبد في الجنّة بلا نهاية ، في كلّ مقدار طرفة عين ينكشف لهم من أسماء الله الباطنة ما لا حدّ له ولا غاية في طول هذه المدّة ، ولا نهاية لانكشاف الأسماء على طول أبد الأبد ، فكيف يُقال أحاط بها كلّها وإنّما الكليّة في الأسماء التي يطلبها الكون فقط ، إنتهى . 

ثمّ قال بعد هذا رضي الله تعالى عنه : ليس لكلّ موجود إلى الله تعالى من جميع المخلوقات ، جِنّاً و إنْساً ومَلَكاً ، ليس له إلى الله تعالى إلاّ وجهة واحدة ، ما عدا العارف بالله تعالى فلا تُحصى توجّهاته في سائر الأوقات ، وهذا التوجّه يعني في الآن الواحد ، فإنّ توجّهاته لا حدّ لها ولا حصر بحسب ما انكشف له من أسماء الله في باطن حضرته ، فليس توجّهه إلى الله إلاّ على قدْر ما انكشف له من صفات الله وأسمائه ، فله في كلّ اسم وجهة خاصّة لا تشترك مع الاسم الآخر ، فهو في الآن الواحد مثلا ، إنْ كان من الأكابر ، يعبد الله تعالى في الآن الواحد بما لا تستوفيه المخلوقات في سنين متطاولة.... ويشهد له أيضا قوله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم في الحديث القدسي : « لم تسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن » فهذه معنى اتّساع التوجّهات إلى الحقّ ، فالعارف يعبد الله في كل آن بما لا حدّ له ولا غاية

حتّى قال الجنيد رضي الله عنه : " لو أقبل مُقْبِلٌ على الله ألف سنة ثمّ أعرض عنه لحظة واحدة لكان ما فاته في تلك اللحظة أكثر ممّا أدركه في ألف سنة " ، وهكذا هذا الترقّي دائما للعارف بالله . ومعنى الفقيه المذكور في الحديث هو العارف بالله تعالى ، إنتهى .

واعلم أنّ حضرة الحقّ سبحانه وتعالى متّحدة من حيث الذات والصفات والأسماء والوجوه ، والوجود كلّه بأسره متوجّه إليه بالخضوع والتذلّل والعبادة والخمود تحت سلطان القهر وامتثال الأمر والمحبّة والتعظيم والإجلال ، فمنهم المُتوَجِّهُ إلى صورة الحضرة الإلهيّة نصّا جَلِيّا في مَحْوِ الغَيْرِ والغَيْرِيَّةِ ، ومنهم المتوجِّه إلى الحضرة العليّة من وراء سِتْرٍ كثيف وَهُمْ عَبَدَةُ الأوثان ومَن ضاهاهم ، فإنّهم في توجّههم إلى عبادة الأوثان ما توجّهوا لغير الحقّ سبحانه وتعالى ولا عبدوا غيره ، لكن الحقّ سبحانه وتعالى تجلّى لهم من وراء تلك الستور بعظمته وجلاله وجذَبَهم بحسب ذلك بحُكْمِ القضاء والقدر الذي لا منازع لهم فيه ، وهذا هو التوجّه إلى الله كَرْهًا ، يقول سبحانه و تعالى :   وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا   الآية . فالوجود كلّه مُتَوَجِّهٌ إلى حضرة الحقّ سبحانه وتعالى بِصِفَةِ ما ذَكَرْنَا فرْداً فرْداً ، وإنّ الكفّار والفجرة والمجرمين والظلمة ، فَهُمْ في ذلك التخليط الذي خالفوا فيه نصوص الشرع وصورة الأمر الإلهيّ ، فإنّهم في ذلك ممتثلون لأمر الله تعالى ليسوا بخارجين عن أمره ومُرادِه ، إلاّ أنّهم خرجوا عن صورة الأمر الإلهي ظاهرا وغرقوا فيه باطنا .

 فإذا عرفتَ هذا فاعلمْ أنّ الكون كلّه ، فردا فردا ، كلّ ذرّةٍ منه مَرْتَبَةً للْحَقِّ يحكم فيها بحُكمٍ خاصٍّ لا يحكم به في غيرها ، ويفعل فيها فعلا خاصّا لا يفعله في غيرها ، ويوجّه إليه تلك الذرّة بتوجّهٍ خاصٍّ إليه لا يوجّه به غيرها فيه ، ويجب الرضا والتسليم له في حكمه . فقد خالفوا أمر الله ظاهرا ووفّوا به باطنا من حيث لا يشعرون ، وما يَرِدُ عليهم بعد ذلك من الثواب والعقاب والجزاء في دار المآب ، عذاباً ونعيماً ، كلّ ذلك بحسب مشيئة لا مَرَدَّ لها ، لا يُسْألُ عمّا يفعل

إرسال تعليق

0 تعليقات