فأجاب رضي الله
عنه بقوله : إعلم أنّ الأسماء التي
علّمها الله لآدم هي الأسماء التي يطلبها الكون ، والكُلِّيَّة المذكورة فيها هو
إحاطته بجميع مُتَعلّقات الكون حتّى لا يشذّ عليه منها شيء ، يشهد لهذا قوله
سبحانه وتعالى في كلّيّة الأسماء حيث عرض صورة الكائنات على الملائكة وقال : أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الآية ،
فدلّتْ هذه الآية على أنّها الأسماء التي يطلبها في الكون بدليل قوله أسماء هؤلاء
وهي صور الأكوان . وأمّا الأسماء الخارجة عن الكون فلا تُمْكِنُ الإحاطة بها ولا
نهاية لها ، قال سبحانه وتعالى : وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا
فإنّ
العارفين والأقطاب والنبيّين والمرسلين مع فتْحِهم في المعرفة ينكشف لهم في كلّ مقدار طرفة عين
من أسماء الله الباطنة أمْرٌ لا حدّ له ، ثمّ يبقون على هذا الحال أبدا سرمدا في
طول عمر الدنيا وفي طول عمر البرزخ وفي طول عمر يوم القيامة وفي طول عمر الأبد في
الجنّة بلا نهاية ، في كلّ مقدار طرفة عين ينكشف لهم من أسماء الله الباطنة ما لا
حدّ له ولا غاية في طول هذه المدّة ، ولا نهاية لانكشاف الأسماء على طول أبد الأبد
، فكيف يُقال أحاط بها كلّها وإنّما الكليّة في الأسماء التي يطلبها الكون فقط ، إنتهى .
ثمّ قال بعد هذا رضي الله
تعالى عنه : ليس لكلّ موجود إلى الله
تعالى من جميع المخلوقات ، جِنّاً و إنْساً ومَلَكاً ، ليس له إلى الله تعالى إلاّ
وجهة واحدة ، ما عدا العارف بالله تعالى فلا تُحصى توجّهاته في سائر الأوقات ،
وهذا التوجّه يعني في الآن الواحد ، فإنّ توجّهاته لا حدّ لها ولا حصر بحسب ما
انكشف له من أسماء الله في باطن حضرته ، فليس توجّهه إلى الله إلاّ على قدْر ما
انكشف له من صفات الله وأسمائه ، فله في كلّ اسم وجهة خاصّة لا تشترك مع الاسم
الآخر ، فهو في الآن الواحد مثلا ، إنْ كان من الأكابر ، يعبد الله تعالى في الآن
الواحد بما لا تستوفيه المخلوقات في سنين متطاولة.... ويشهد له أيضا قوله صلّى الله تعالى
عليه وآله وسلّم في الحديث القدسي : « لم تسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن » فهذه معنى اتّساع التوجّهات
إلى الحقّ ، فالعارف يعبد الله في كل آن بما لا حدّ له ولا غاية
حتّى قال الجنيد رضي الله عنه
: " لو أقبل مُقْبِلٌ على
الله ألف سنة ثمّ أعرض عنه لحظة واحدة لكان ما فاته في تلك اللحظة أكثر ممّا أدركه
في ألف سنة " ، وهكذا هذا الترقّي دائما للعارف بالله . ومعنى الفقيه
المذكور في الحديث هو العارف بالله تعالى ، إنتهى .
واعلم أنّ حضرة الحقّ سبحانه وتعالى متّحدة من حيث الذات
والصفات والأسماء والوجوه ، والوجود كلّه بأسره متوجّه إليه بالخضوع والتذلّل
والعبادة والخمود تحت سلطان القهر وامتثال الأمر والمحبّة والتعظيم والإجلال ،
فمنهم المُتوَجِّهُ إلى صورة الحضرة الإلهيّة نصّا جَلِيّا في مَحْوِ الغَيْرِ
والغَيْرِيَّةِ ، ومنهم المتوجِّه إلى الحضرة العليّة من وراء سِتْرٍ كثيف وَهُمْ
عَبَدَةُ الأوثان ومَن ضاهاهم ، فإنّهم في توجّههم إلى عبادة الأوثان ما توجّهوا
لغير الحقّ سبحانه وتعالى ولا عبدوا غيره ، لكن الحقّ سبحانه وتعالى تجلّى لهم من
وراء تلك الستور بعظمته وجلاله وجذَبَهم بحسب ذلك بحُكْمِ القضاء والقدر الذي لا منازع
لهم فيه ، وهذا هو التوجّه إلى الله كَرْهًا ، يقول سبحانه و تعالى :
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
طَوْعًا وَكَرْهًا
الآية .
فالوجود كلّه مُتَوَجِّهٌ إلى حضرة الحقّ سبحانه وتعالى بِصِفَةِ ما ذَكَرْنَا
فرْداً فرْداً ، وإنّ الكفّار والفجرة والمجرمين والظلمة ، فَهُمْ في ذلك التخليط
الذي خالفوا فيه نصوص الشرع وصورة الأمر الإلهيّ ، فإنّهم في ذلك ممتثلون لأمر
الله تعالى ليسوا بخارجين عن أمره ومُرادِه ، إلاّ أنّهم خرجوا عن صورة الأمر
الإلهي ظاهرا وغرقوا فيه باطنا .
فإذا
عرفتَ هذا فاعلمْ أنّ الكون كلّه ، فردا
فردا ، كلّ ذرّةٍ منه مَرْتَبَةً للْحَقِّ يحكم فيها بحُكمٍ خاصٍّ لا يحكم به في
غيرها ، ويفعل فيها فعلا خاصّا لا يفعله في غيرها ، ويوجّه إليه تلك الذرّة
بتوجّهٍ خاصٍّ إليه لا يوجّه به غيرها فيه ، ويجب الرضا والتسليم له في حكمه . فقد
خالفوا أمر الله ظاهرا ووفّوا به باطنا من حيث لا يشعرون ، وما يَرِدُ عليهم بعد
ذلك من الثواب والعقاب والجزاء في دار المآب ، عذاباً ونعيماً ، كلّ ذلك بحسب
مشيئة لا مَرَدَّ لها ، لا يُسْألُ عمّا يفعل
0 تعليقات