وأختم شرح هذه الصلوات بمسألة إهداء الثواب له صلّى الله
عليه وسلّم . فقد سألته رضي الله عنه عن بيان
ذلك ، فأجاب رضي الله عنه بقوله :
إعلم أنّه صلّى الله عليه وسلّم غنيّ عن جميع الخلق جملة
وتفصيلا ، فردا فردا ، وعن صلاتهم
عليه ، وعن إهدائهم ثواب الأعمال له صلّى الله عليه وسلّم بربّه أوّلا ، وبما منحه
من سبوغ فضله وكمال طَوْله ، فهو في ذلك عند ربّه ، صلّى الله عليه وسلّم ، في
غاية لا يمكن وصول غيره إليها ولا يطلب معها من غيره زيادة أو إفادة ، يشهد لذلك
قوله سبحانه وتعالى: : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
فَتَرْضَى .
وهذا العطاء ، وإن ورد من الحقّ بهذه الصفة سهلة المأخذ قريبة المحتد ،
فإنّ لها غاية لا تدرك العقول أصغرها فضلا عن الغاية التي هي أكبرها . فإنّ
الحقّ سبحانه وتعالى يعطيه من فضله على قدر سعة ربوبيّته ، ويفيض على مرتبته
صلّى الله عليه وسلّم على قدر حظوته ومكانته عنده . وما ظنّك بعطاءٍ يَرِد من
مرتبة لا غاية لها وعظمة ذلك العطاء على قدر تلك المرتبة ، ثمّ يَرِد على مرتبة لا
غاية لها أيضا وعظمته على قدر وسعها أيضا ، فكيف يقدّر هذا العطاء ؟ وكيف تحمل
العقول سعته ؟ ولذا قال سبحانه وتعالى : وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
عَظِيمًا .
وأقلّ مراتبه في غناه صلّى الله عليه وسلّم أنّه مِن لدن
بعثه إلى قيام الساعة ، كلّ عامل يعمل لله ممّن دخل في طوق رسالته صلّى الله عليه
وسلّم يكون له مثل ثواب عمله بالغا ما بلغ . فليس يحتاج مع هذه المرتبة إلى زيادة لهذا الثواب لما
فيها من كمال الغنى الذي لا حدّ له .
وهذه أصغر مراتب غناه صلّى الله عليه وسلّم ، فكيف بما وراءها من الفيض الأكبر ، والفضل الأعظم
الأخطر الذي لا تطيق حمله عقول الأقطاب فضلا عمّن دونهم ؟ وإذا عرفتَ هذا ، فاعلم
أنّه ليست له حاجة إلى صلاة المصلّين عليه صلّى الله عليه وسلّم ، ولا شرعت لهم
ليحصل له النفع بها صلّى الله عليه وسلّم . ليست له حاجة إلى إهداء الثواب ممّن
يهدي له ثواب الأعمال ، وما مثل المُهدي له في هذا الباب ثواب العمل ، متوهّما
أنّه يزيده به صلّى الله عليه وسلّم أو يحصل به نفعا ، إلاّ كمن رمى نقطة قلم في
بحر طوله مسيرة عشر مائة ألف عام وعرضه كذلك وعمقه كذلك ، متوهّما أنّه يمدّ هذا
البحر بتلك النقطة يزيده ، فأيّ حاجة لهذا البحر بهذه النقطة وما عسى أن تزيد فيه
؟
وإذا عرفتَ رتبة غناه صلّى الله عليه وسلّم وحظوته عند
ربّه ، فاعلم أنّ أمْر الله للعباد بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم ليعرّفهم
علوّ مقداره عنده ، و شفوف مرتبته لديه ، وعلوّ اصطفائه على جميع خلقه ، وليخبرهم
أنّه لا يقبل العمل من عامل إلاّ بالتوسّل إلى الله به صلّى الله عليه وسلّم .
فمن طلب القرب من الله تعالى ، والتوجّه إليه دون التوسّل به صلّى الله عليه وسلّم ،
معرضا عن كريم جنابه ، ومدبرا عن تشريع خطابه ، كان مستوجبا من الله غاية السخط والغضب ، وغاية اللعن والطرد والبعد ، وضلّ سعيه وخسر عمله . ولا وسيلة إلى الله إلاّ به صلّى الله عليه وسلّم
كالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم وامتثال شرعه . فإذاً ، فالصلاة عليه صلّى الله
عليه وسلّم فيها تعريف لنا بعلوّ مقداره عند ربّه ، وفيها تعليم لنا بالتوسّل به
صلّى الله عليه وسلّم في جميع التوجّهات والمطالب ، لا غير هذه مِنْ توَهُّم النفع
له بها صلّى الله عليه وسلّم لِما ذكرناه سباقا من كمال الغنى .
وأمّا إهداء الثواب له صلّى الله عليه وسلّم فتعقّـلْ ما
ذكرناه من الغنى أوّلا ، ثمّ تعقّـلْ مثالا آخر يضرب
لإهداء الثواب له صلّى الله عليه وسلّم بملك عظيم المملكة ، ضخم السلطنة ، قد أوتي
في مملكته من كلّ متموّل خزائن لا حدّ لعددها ، كلّ خزانة عرضها وطولها من السماء
إلى الأرض مملوءة ، كلّ خزانة على هذا القدر ياقوتا أو ذهبا أو فضّة أو زروعا أو
غيرها من المتموّلات . ثمّ قدّر فقيرا لا يملك مثلا غير خبزتين من دنياه ، فسمع
بالملك ، واشتدّ حبّه وتعظيمه له في قلبه ، فأهدى لهذا الملك إحدى الخبزتين معظّما
له ومحبّا ، والملك متّسع الكرم ، فلا شكّ أنّ الخبزة لا تقع منه ببال لِما هو فيه
من الغنى الذي لا حدّ له . فوجودها عنده وعدمها على حدّ سواء . ثمّ الملك ،
لاتّساع كرمه ، علم فقر الفقير وغاية جهده ، وعلم صدق حبّه وتعظيمه في قلبه ،
وأنّه ما أهدى له الخبزة إلاّ لأجل ذلك ، ولو قدر على أكثر من ذلك لأهداه له .
فالملك يظهر له الفرح والسرور بذلك الفقير وبهديّته لأجل تعظيمه له وصدق حبّه لا
لأجل انتفاعه بالخبزة .
ويثابُ على تلك الخبزة بما لا يقدّر قدره من العطاء لأجل صدق المحبّة والتعظيم
لا لأجل النفع بالخبزة . وعلى هذا التقدير وضرب المثل قدّر إهداء الثواب له صلّى
الله عليه وسلّم . وأمّا غناه عنه صلّى الله عليه وسلّم فقد تقدّم ذكره في ضرب
المثل بعظمة البحر المذكور أوّلا وإمداده بنقطة القلم . وأمّا إثابته صلّى الله
عليه وسلّم فقد ذُكِر المثل لها بإهداء الخبزة الملك المذكور ، والسلام اهـ.. من
إملائه رضي الله عنه .
0 تعليقات